الجمعة، 15 فبراير 2019

من هو الذبيح من ولدي إبراهيم؟

من هو الذبيح من ولدي إبراهيم؟

صدقي البيك                            

    13/2/2019م

هل قال جمهور المفسرين إنه إسحق؟

هذه نصوص من  اثنين وعشرين تفسيرا قديما وحديثا، ويتلوها نتيجة هذا البحث

تفسير الطبري

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

واختلف أهل التأويل، في المفديّ من الذبح من ابني إبراهيم، فقال بعضهم: هو إسحاق.

* ذكر من قال ذلك:

عن العباس بن عبد المطلب( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الذي أُمِر بذبحه إبراهيم هو إسحاق.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.

عن أبي هريرة، عن كعب في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: من ابنه إسحاق.

عن ابن إسحاق، عن مسروق، في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسحاق.

عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عبيد بن عمير، قال: هو إسحاق.

عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمير قال:( قال موسى: يا ربّ يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قطّ إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظنّ ).

عن أبي سنان الشيباني، عن ابن أبي الهذيل، قال: الذبيح هو إسحاق.

عن جابر، عن ابن سابط، قال: هو إسحاق.

قال يوسف للملِك في وجهه: ترغب أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.

وقال آخرون: الذي فُدِي بالذبح العظيم من بني إبراهيم: إسماعيل.

* ذكر من قال ذلك:

عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الذبيح: إسماعيل.

عن الشعبيّ، عن ابن عباس( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: إسماعيل.

عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: إن الذي أمر بذبحه إبراهيم إسماعيلُ.

عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال: هو إسماعيل، يعني( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ).

حدثنا داود، عن الشعبيّ، قال: قال ابن عباس: هو إسماعيل.

عن عطاء بن أبي رَباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المَفْدِيّ إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.

عن داود، عن عامر، قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه: إسماعيل.

عن جابر، عن الشعبي، قال: الذبيح إسماعيل، وقال: رأيت قرني الكبش في الكعبة.

عن عليّ بن زيد بن جُدْعان، عن يوسف بن مهران، قال: هو إسماعيل.

عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هو إسماعيل.

حدثنا عوف، عن الحسن( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: هو إسماعيل.

عن ابن إسحاق، قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ وهو يقول: إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أُمر به من ذبح ابنه إسماعيل، وذلك أن الله يقول، حين فرغ من قصة المذبوح من إبراهيم، قال:( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول: بشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعود ما وعده الله، وما الذي أُمر بذبحه إلا إسماعيل.

عن الحسن بن دينار، وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم: إسماعيل.

عن بريدة بن سفيان بن فَرْوة الأسلمي عن محمد بن كعب القُرَظِيّ، أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما هو; ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فأسلم فحسُن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء يهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فقال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: أيّ ابني إبراهيم أُمِر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسُدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، فالله أعلم أيهما كان، كل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لربه.

عن عبد الله بن سعيد، عن الصّنَابحي، قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان، فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم:( كنا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله عُدّ عليّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين; فضحك عليه الصلاة والسلام; فقلنا له: يا أمير المؤمنين، وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أُمِر بحفْر زمزم، نذر لله لئن سَهُل عليه أمرها ليذبحنّ أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، وقالوا: افْدِ ابنك بمئة من الإبل، ففداه بمئة من الإبل، وإسماعيل الثاني ) .

عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: الذي فُدِيَ به إسماعيل، ويعني تعالى ذكره الكبش الذي فُدِيَ به إسحاق؟؟؟؟؟

قال أبو جعفر (الطبري): وأولى القولين بالصواب في المَفْديّ من ابني إبراهيم خليل الرحمن على ظاهر التنزيل قول من قال: هو إسحاق، لأن الله قال:( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) فذكر أنه فدَى الغلامَ الحليمَ الذي بُشِّر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدًا صالحًا من الصالحين، فقال:( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) فإذ كان المفدِيّ بالذبح من ابنيه هو المبشَّر به، وكان الله تبارك اسمه قد بين في كتابه أن الذي بُشِّر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال جل ثناؤه:( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معنيّ به إسحاق، كان بيَّنا أن تبشيره إياه بقوله( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن. (هذا احتجاج  ففرق بين غلام حليم هنا  وغلام عليم في الحجر "لا توجل وبشرناه بغلام عليم".

وبعد: فإن الله أخبر جل ثناؤه في هذه الآية عن خليله أنه بشَّره بالغلام الحليم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين، ومعلوم أنه لم يسأله ذلك إلا في حال لم يكن له فيه ولد من الصالحين، لأنه لم يكن له من ابنيه إلا إمام الصالحين، وغير موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له. فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو الذي ذكر في سائر القرآن أنه بشَّره به وذلك لا شك أنه إسحاق، إذ كان المفديّ هو المبشَّر به. وأما الذي اعتلّ به من اعتلّ في أنه إسماعيل، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم; فإن الله إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير ممكن أن يكون قد وُلد لإسحاق فيها أولاد، فكيف الواحد؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة المفديّ من ولد إبراهيم بقوله( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا ) ولو كان المفديّ هو إسحاق لم يبشَّر به بعد، وقد ولد، وبلغ معه السعي، فإن البشارة بنبوه إسحاق من الله فيما جاءت به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة من الله له على صبره لأمر ربه فيما امتحنه به من الذبح، وقد تقدمت الرواية قبلُ عمن قال ذلك. وأما اعتلال من اعتلّ بأن قرن الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حُمل من الشام إلى الكعبة. وقد رُوي عن جماعة من أهل العلم أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام، وبها أراد ذبحه.

اختلف أهل العلم في الذِّبح الذي فُدِي به إسحاق، فقال بعضهم: كان كبشا.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة بن دِعامة، عن جعفر بن إياس، عن عبد الله بن العباس، في قوله( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) قال: خرج عليه كبش من الجنة قد رعاها قبل ذلك أربعين خريفا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرمي بسبع حصيات، فأفلته عنده، فجاء الجمرة الوسطى، فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات، ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات، فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من مِنَى، فذبحه; فوالذي نفس ابن عباس بيده، لقد كان أوّل الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه عند ميزاب الكعبة قد حُشّ، يعني يبس.

عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرويّ أهبط عليه.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للذِّبح الذي فدي به إسحاق عظيم، فقال بعضهم: قيل ذلك كذلك، لأنه كان رَعَى في الجنة.

المقباس لابن عباس:

{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } ولداً من المرسلين { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ } بولد { حَلِيمٍ } عليم في صغره حليم في كبره { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } العمل لله بالطاعة ويقال المشي معه إلى الجبل {قَالَ } إبراهيم لابنه إسماعيل ويقال إسحاق { يابني إني أرى فِي المنام } أمرت في المنام { أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } تشير وتأمر { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } من الذبح { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } على الذبح.

تفسير ابن كثير:

يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم [عليه السلام]: إنه بعد ما نصره الله على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، وقال: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } يعني: أولادا مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم. قال الله تعالى: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أولُ ولد بشر به إبراهيم، عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل وُلِدَ ولإبراهيم، عليه السلام، ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمْر إبراهيم تسع وتسعون سنة. وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكْره، فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا "إسحاق"، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا "إسحاق" لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادوا ذلك وحَرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال: "وحيد" إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له مَعزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تُلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة. وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } . ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الحجر:53]. وقال تعالى: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود:71]، أي: يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل. وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأن الله [تعالى] قد وعدهما بأنه سيعقب، ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا، وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام.

وقوله: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي: كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه. وقد كان إبراهيم، عليه السلام، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد "فاران" وينظر في أمرهما، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك، فالله أعلم.

وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وغيرهم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } يعني: شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى

وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه.

{ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي: امض لما أمرك الله من ذبحي، { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي: سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل. وصدق، صلوات الله وسلامه عليه، فيما وعد؛ ولهذا قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [مريم:54، 55].

إبراهيم امتثل أمْرَ الله، وإسماعيل طاعة الله وأبيه. قاله مجاهد، وعكرمة والسدي، وقتادة، وابن إسحاق، وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيْج (7) ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغَنَويّ، عن أبي الطفيل (8) ، عن ابن عباس أنه قال: لما أمر إبراهيم بالمناسك عَرَض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، وثَمّ تَلَّه للجبين، وعلى إسماعيل قميص أبيض، فقال له: يا أبت، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلعه، فنُوديَ من خلفه: { أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } ، فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين

وذكر تمام الحديث في "المناسك" بطوله. ثم رواه أحمد بطوله عن سعيد بن جبير  عن ابن عباس، فذكر نحوه إلا أنه قال: "إسحاق". فعن ابن عباس في تسمية الذبيح (13) روايتان، والأظهر عنه إسماعيل، لما سيأتي بيانه.

قال ابن عباس ......فوالذي نفسُ ابن عباس بيده لقد كان  أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حَشَّ (2) ، يعني: يبس.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، أخبرنا القاسم قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فجعل أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل كعب يحدث عن الكُتُب، فقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني قد خَبَأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". فقال له كعب: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فداك أبي وأمي -أو: فداه أبي وأمي-أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه السلام؟ إنه لما أُريَ ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا. فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه، فذهب الشيطان فدخل على سارة، فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: غدا به لبعض حاجته. قال: لم يغد لحاجة، وإنما ذهب به ليذبحه. قالت: وَلِم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فقد أحسن أن يطيع ربه. فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام: أين يذهب بك أبوك؟ قال: لبعض حاجته. قال: إنه لا يذهب بك لحاجة، ولكنه يذهب بك ليذبحك. قال: ولم يذبحني؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمره بذلك ليفعلن. قال: فيئس منه فلحق  بإبراهيم، فقال: أين غدوت بابنك؟ قال لحاجة. قال: فإنك لم تغد به لحاجة، وإنما غدوت به لتذبحه قال: وَلم أذْبَحه؟ قال: تزعم أن ربك أمرك بذلك. قال: فوالله لئن كان الله أمرني  بذلك لأفعلن. قال: فتركه ويئس أن يطاع.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار (1) ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي، وبين أن أختبئ شفاعتي، فاختبأت شفاعتي، ورجوت أن تكفر الجَمْ (3) لأمتي، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي، إن الله لما فرج عن إسحاق كرْبَ الذبح قيل له: يا إسحاق، سل تعطه. فقال: أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة".  هذا حديث غريب منكر. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مُدْرَجَة، وهي قوله: "إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق" إلى آخره، والله أعلم. فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن "إسماعيل"، وإنما حرفوه بإسحاق؛ حَسَدًا منهم كما تقدم، وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة، حيث كان إسماعيل لا إسحاق [عليهما السلام]، فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام.

 عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء ابنه، هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء، فذبحه، وهو الكبش الذي قَرّبه ابن آدم فتقبل منه، فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق. ( وما جاء بإسحق إلى ثبير؟؟!!) 

وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال: كان الكبش يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير.

وقال ابن جريج: قال عبيد بن عمير: ذبحه بالمقام. وقال مجاهد: ذبحه بمنى عند المنحر

وقال محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أنه كان يقول: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأرْوَى، أهبط عليه من ثبير.

وقد قال  الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن خاله مُسافع ، عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم -وَلدت عامة أهل دارنا-أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة -وقال مرة: إنها سألت عثمان: لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال: "إني كنتُ رأيت قرني الكبش، حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فَخَمَّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي". قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت، فاحترقا.

تفسير الرازي

اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو ؟

 فقيل إنه إسحق وهذ قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم.

 وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي. واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه : الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "أنا ابن الذبيحين" وقال له أعرابي : "يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بمائة من الإبل ، والذبيح الثاني إسماعيل".

الحجة الثانية : نقل عن الأصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عقلك ، ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه المنحر بمكة ؟

الحجة الثالثة : أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحق في قوله : {وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِا كُلٌّ مِّنَ الصَّـابِرِينَ} (الأنبياء : 85) وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضاً بصدق الوعد في قوله : {إِنَّه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (مريم : 54) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : {فَبَشَّرْنَـاهَا بِإِسْحَـاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ يَعْقُوبَ} (هود : 71) فنقول لو كان الذبيح إسحق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب ، منه أو بعد ذلك فالأول : باطل لأنه تعالى لما بشرها بإسحق ، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه ، وإلا حصل الخلف في قوله : {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ} والثاني : باطل لأن قوله : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَـابُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} يدل على أن ذلك الإبن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه ، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحق.

الحجة الخامسة : حكى الله تعالى عنه أنه قال : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) ثم طلب من الله تعالى ولداً يستأنس به في غربته فقال : {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} (الصافات : 100) وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد ، لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد ، لأن طلب الحاصل محال وقوله : {هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد ، وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله : {مِنَ الصَّـالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول ، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحق ، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء وهو إسماعيل ، ثم إن الله تعالى ذكر بقية قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل.

الحجة السادسة : الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة ، فكأن الذبيح بمكة. ولو كان الذبيح إسحق كان الذبح بالشام.

 واحتج من قال إن ذلك الذبيح هو إسحق بوجهين : الوجه الأول : أن أول الآية وآخرها يدل على ذلك ، أما أولها فإنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام ثم قال : فبشرناه بغلام حليم} (الصافات : 101) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق ، ثم قال بعده : (الصافات : 101) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق ، ثم قال بعده : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام ، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحق ، وأما آخر الآية فهو أيضاً يدل على ذلك لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده : {وَبَشَّرْنَـاهُ بِإِسْحَـاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ} ومعناه أنه بشره بكونه نبياً من الصالحين ، وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة يدل على أنه تعالى إنما بشره بهذه النبوة لأجل أنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح ، فثبت بما ذكرنا أن أول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحق عليه السلام.

الحجة الثانية : على صحة ذلك ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام من / يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فهذا جملة الكلام في هذا الباب ، وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح والله أعلم. واعلم أنه يتفرع على ما ذكرنا اختلافهم في موضع الذبح فالذين قالوا الذبيح هو إسماعيل قالوا : كان الذبح بمنى ، والذين قالوا : إنه إسحق قالوا : هو بالشام وقيل ببيت المقدس ، والله أعلم.

فالرازي يذكر ست حجج للقائلين بأنه إسماعيل، وحجتين للقائلين هو إسحق، وكان حين يذكر حجج الأولين يستعمل أحيانا ضمير المتكلمين "فنقول", وهذا يدل على أنه يمل هذا الرأي.


التحرير والتنوير لابن عاشور


وَإِنَّمَا بَرَزَ هَذَا الِابْتِلَاءُ فِي صُورَةِ الْوَحْيِ الْمَنَامِيِّ إِكْرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ عَنْ أَنْ يُزْعَجَ بِالْأَمْرِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ بِوَحْيٍ فِي الْيَقَظَةِ لِأَنَّ رُؤَى الْمَنَامِ يَعْقُبُهَا تَعْبِيرُهَا إِذْ قَدْ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى رُمُوزٍ خَفِيَّةٍ وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِنَفْسِهِ لِتَلَقِّي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَبْحُ ابْنِهِ الْوَحِيدِ.

وَهَذَا وَعْدٌ قَدْ وَفَّى بِهِ حِينَ أَمْكَنَ أَبَاهُ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي شَكَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم:

54] ، وَقَدْ قَرَنَ وَعْدَهُ بِ إِنْ شاءَ اللَّهُ اسْتِعَانَةً عَلَى تَحْقِيقِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ»

وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَلَمْ يُسَمِّهِ الْقُرْآنُ لِعِلَّةٍ لِئَلَّا يُثِيرَ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ مِنْ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الْمَقْصِدُ تَأَلُّفَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الِاعْتِرَافِ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَقْصِدٌ مُهِمٌّ يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ وَلَا فِي تَخْطِئَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّى إِسْمَاعِيلَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرَ قِصَّةِ الذَّبْحِ وَسَمَّى إِسْحَاقَ فِي مَوَاضِعَ، وَمِنْهَا بِشَارَةُ أُمِّهِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَذَكَرَ اسْمَيْ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وُهِبَا لَهُ عَلَى الْكِبَرِ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْفَضْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ فَأَيُّ وَلَدَيْهِ كَانَ الذَّبِيحَ كَانَ فِي ابْتِلَائِهِ بِذَبْحِهِ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ تَنْوِيهٌ عَظِيمٌ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46]

وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ»

. رَوَى الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ أَحَدَ الْأَعْرَابِ قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ فَتَبَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ الذَّبِيحُ وَأَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ أَبُوهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ: لَئِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ بِعَشَرَةِ بَنِينَ أَنْ يَذْبَحَ الْعَاشِرَ لِلْكَعْبَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ الْعَاشِرُ عَزَمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ، فَكَلَّمَهُ كَبَرَاءُ أَهْلِ الْبِطَاحِ أَنْ يَعْدِلَهُ عَشَرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ وَأَنْ يَسْتَقْسِمَ بِالْأَزْلَامِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْإِبِلِ فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْإِبِلِ نَحَرَهَا، فَفَعَلَ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالُوا ....وَلَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ: أَرْضِ الْآلِهَةَ وَيَزِيدُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَشَرَةً مِنَ الْإِبِلِ .....فَذَبَحَهَا فِدَاءً عَنْهُ.

وَكَانَتْ مَنْقَبَةً لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِابْنِهِ أبي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُشْبِهُ مَنْقَبَةَ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَتْ جَرَتْ عَلَى أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهَا يُسْتَخْلَصُ مِنْهَا غَيْرُ مَا حَفَّ بِهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ فَتْرَةٍ لَا شَرِيعَةَ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا

إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِنَاءً عَلَى مَا جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» فِي «الْإِصْحَاحِ» الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ وَعَلَى مَا كَانَ يَقُصُّهُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا عَلِمُوهُ مِنْ أَقْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُهُ وَلَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ.

وَالتَّأَمُّلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَوِّي الظَّنَّ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ هُوَ الْغُلَامُ الْحَلِيمُ فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ فَسَاقَتِ الْآيَةُ قِصَّةَ الِابْتِلَاءِ بِذَبْحِ هَذَا الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الْمَوْهُوبِ لِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَعْقَبَتْ قِصَّتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيئًا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ إِسْحَاقَ هُوَ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي مَضَى الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْله: وَبَشَّرْناهُ [الصافات: 112] بِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ وَأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ إِسْحَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ.

فَهَذَا دَلِيلٌ أَوَّلُ.

الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ وَقَعَ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ ابْنٌ غَيْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الِابْتِلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.

الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] عَقِبَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الْحَلِيمَ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ هُوَ الْمُبَشَّرُ بِهِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ عَقِيمًا يَرِثُهُ عَبِيدُ بَيْتِهِ كَمَا جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» وَتَقَدَّمَ آنِفًا. ( هب لي من الصالحين: تعني أنه لم يكن عنده أحد " من الصالحين " أي ليس له أي ولد حتى ذلك الحين " فبشرناه بغلام حليم" فكان هذا الغلام أول صالح يأتيه، وهو إسماعيل). 

الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى بَيْتًا لِلَّهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا آخَرَ 

الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَعَلِمَ مُرَادَهَ وَتَبَسَّمَ، وَلَيْسَ فِي آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبِيحٌ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ وَإِسْمَاعِيلَ.

الدَّلِيلُ السَّادِسُ: مَا وَقَعَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرَيَّا وَأَصْعِدْهُ هُنَالِكَ مُحْرَقَةٌ عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ إِسْحَاقُ وَحِيدًا لِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ وُلِدَ قَبْلَهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مُتَوَاصِلَيْنِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرين من سفر التَّكْوِينِ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «وَدَفَنَهُ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَاهُ»، فَإِقْحَامُ اسْمِ إِسْحَاقَ بَعْدَ: ابْنَكَ وَحِيدَكَ، مِنْ زِيَادَةِ كَاتِبِ التَّوْرَاةِ.

الدَّلِيلُ السَّابِعُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَدُلُّ عَلَيهِ أَنَّ قَرْنَيِ الْكَبْشِ كَانَا مَنُوطَيْنِ فِي الْكَعْبَةَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِلَى أَنِ احْتَرَقَ الْبَيْتُ فِي حِصَارِ ابْن الزبير ا. هـ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ مِنْ مِيزَابِ الْكَعْبَةَ وَقَدْ يَبِسَ. قُلْتُ: وَفِي صِحَّةِ كَوْنِ ذَلِكَ الرَّأْسِ رَأْسَ كَبْشِ الْفِدَاءِ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ نَظَرٌ.

الدَّلِيلُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ فِي حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الرَّمْيِ فِي الْجَمَرَاتِ مِنْ عَهْدِ الْحَنِيفِيَّةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَعَرَّضَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَصُدَّهُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ وَذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَمْ تَكُنْ لِلْيَهُودِ سُنَّةُ ذَبْحٍ مُعَيَّنٍ.

الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْقُرْآنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَرَنَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ بِأَنَّهُ يُولَدُ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ إِبْرَاهِيمَ فَلَوِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ لَكَانَ الِابْتِلَاءُ صُورِيًّا لِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِأَنَّ إِسْحَاقَ يَعِيشُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ يَعْقُوبُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَلَمَّا بَشَّرَهُ بِإِسْمَاعِيلَ لَمْ يَعِدْهُ بِأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا تَوْطِئَةٌ لِابْتِلَائِهِ بِذَبْحِهِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَدْعُو لِحَيَاةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ. فَقَدْ جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ عَشَرَ «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ فَقَالَ اللَّهُ: بَلْ سَارَةُ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ» . وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِذَبْحِهِ.

الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ إِسْحَاقَ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا:

وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيئًا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] تَكْرِيرًا لِأَنَّ فِعْلَ: بَشَّرْنَاهُ بِفُلَانٍ، غَالِبٌ فِي مَعْنَى التَّبْشِيرِ بِالْوُجُودِ.

وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمِمَّنْ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ1 وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ2 وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ4 وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ5. وَقَالَهُ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ1 وَالشَّعْبِيُّ2 وَمُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ4 وَالْكَلْبِيّ5ُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ6 وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ7 وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ8. 

وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ إِسْحَاقُ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ1 وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ2 وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ3 وَعُمَرَ4 وَعَلِيٍّ5 مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَهُ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ: عَطَاءٌ1 وَعِكْرِمَةُ2 وَالزُّهْرِيُّ 3 وَالسُّدِّيُّ4. وَفِي «جَامِعِ الْعَتَبِيَّةِ» أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ5.

فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَامَ جَنَحْتَ إِلَيْهِ وَاسْتَدْلَلْتَ عَلَيهِ مِنِ اخْتِيَارِكَ أَنْ يَكُونَ الِابْتِلَاءُ بِذَبْحِ إِسْمَاعِيلَ دُونَ إِسْحَاقَ، فَكَيْفَ تَتَأَوَّلُ مَا وَقَعَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» ؟

قُلْتُ: أَرَى أَنَّ مَا فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» نُقِلَ مُشَتَّتًا غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ فِيهِ أَزْمَانُ الْحَوَادِثِ بِضَبْطٍ يُعَيِّنُ الزَّمَنَ بَيْنَ الذَّبْحِ وَبَيْنَ أَخْبَارِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا نَقَلَ النَّقَلَةُ التَّوْرَاةَ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهَا عَقِبَ أَسْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بِلَادِ أَشُورَ زَمَنَ بُخْتُنَصَّرَ، سَجَّلَتْ قَضِيَّةَ الذَّبِيحِ فِي جُمْلَةِ أَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُدْمِجَ فِيهَا مَا اعْتَقَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي غُرْبَتِهِمْ مِنْ ظَنِّهِمُ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ «وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ» إِلَخْ فَهَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهَا: بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَعْدَ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ بَعْدَ بَعْضِ مَا تقدم.

[108- 111]

وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى لِإِبْرَاهِيمَ وَمَكْرَمَةٌ لَهُ، وَهِيَ غَيْرُ الْبِشَارَةِ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ، فَإِسْحَاقُ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ. وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ. هود 71 . (وكذلك في قوله في 53 الحجر: لا تخف وبشروه بغلام عليم). ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة. الأنبياء 72)

وَتَسْمِيَةُ الْمُبَشَّرِ بِهِ إِسْحَاقَ تَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ عَيَّنَ لَهُ اسْمًا يُسَمِّيهِ بِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ عشر من «سفر التَّكْوِينِ» «سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ» .

وَتَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ: بَشَّرْنَاهُ بِوَلَدٍ الَّذِي سُمِّيَ إِسْحَاقُ، وَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي اسْمُهُ إِسْحَاقُ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ الَّذِي سُمِّيَ إِسْمَاعِيلَ. وَمَعْنَى الْبِشَارَةِ بِهِ الْبِشَارَةُ بِوِلَادَتِهِ لَهُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي.

وَبَشَّرْنَاهُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ اسْمُهُ إِسْحَاقُ مُقَدَّرًا حَالُهُ أَنَّهُ نَبِيءٌ، وَعَدَمُ وُجُودِ صَاحِبِ الْحَالِ فِي وَقْتِ الْوَصْفِ بِالْحَالِ لَا يُنَافِي اتصافه بِالْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ لِأَنَّ وُجُودَ صَاحِبِ الْحَالِ غَيْرُ شَرْطٍ فِي وَصْفِهِ بِالْحَالِ بَلِ الشَّرْطُ مُقَارَنَةُ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِهِ مَعَ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْحَالِ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ وَلَا تَكُونُ الْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَطُولُ زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ لَا يَتَحَدَّدُ، (والإشارة إلى أنه نبي تتعارض مع طلب ذبحه وهو غلام، وهذا يؤكد أن المأمور بذبحه لم يرد مع البشرى به ما يشير إلى امتداد عمره). 

تفسير القرطبي:

قال الله تعالى:" فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ" أَيْ إِنَّهُ يَكُونُ حَلِيمًا فِي كِبَرِهِ فَكَأَنَّهُ بُشِّرَ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، فَكَانَتِ الْبُشْرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهِ. فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الْعَبَّاسُ 1 بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ2 وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ3 أَنَّ رَجُلًا قال له: يا بن الْأَشْيَاخِ الْكِرَامِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ". وَأَبُو الزُّبَيْرِ عن جابر4 قال: الذبيح إسحاق. وذلك مروي أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ5 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ6: أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ 7رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلْقَمَةُ1 وَالشَّعْبِيُّ2 وَمُجَاهِدٌ3 وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ4 وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ5 وَقَتَادَةُ6 وَمَسْرُوقٌ7 وَعِكْرِمَةُ8 وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ9 وَعَطَاءٌ10 وَمُقَاتِلٌ11 وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ 12 وَالزُّهْرِيُّ13 وَالسُّدِّيُّ 14وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ15 وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ16، كُلُّهُمْ قَالُوا: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ النَّحَّاسُ «2» وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ فِي الْمَنَامِ، فَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى أَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى، فَلَمَّا صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ الذَّبْحَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ الْكَبْشَ فَذَبَحَهُ، وَسَارَ بِهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي رَوْحَةٍ وَاحِدَةٍ طُوِيَتْ لَهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْجِبَالُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي النَّقْلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ1 وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ2. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ3 وَابْنِ عَبَّاسٍ4 أَيْضًا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ1 وَالشَّعْبِيُّ2 وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ3 وَمُجَاهِدٌ4 وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ5 وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي6 والكلبي7 وعلقمة8. وسيل أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ9 عَنِ الذَّبِيحِ فَأَنْشَدَ:

إِنَّ الذبيح هديت إسماعيل ... ونطق الكتاب بِذَاكَ وَالتَّنْزِيلُ

شَرَفٌ بِهِ خَصَّ الْإِلَهُ نَبِيَّنَا ... وأتى بِهِ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ

إِنْ كُنْتَ أُمَّتَهُ فَلَا تنكر له ... شرفا بِهِ قَدْ خَصَّهُ التَّفْضِيلُ

وَعَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ، فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ! وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَإِنَّمَا كَانَ إِسْمَاعِيلُ بِمَكَّةَ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ وَالْمَنْحَرَ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أن الذبيح إِسْمَاعِيلُ" 0

 وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ مَعَ امْرَأَتِهِ سَارَةَ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ فَقَالَ:" إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ" أَنَّهُ دَعَا فَقَالَ:" رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ" فَقَالَ تَعَالَى:" فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ" [مريم: 49]، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ:" وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" فَذَكَرَ أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّمَا بُشِّرَ بِإِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ قَالَ:" وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ"، وَقَالَ هُنَا:" بِغُلامٍ حَلِيمٍ" وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَاجَرَ وَقَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ إِلَّا إِسْحَاقَ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِسْمَاعِيلُ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالصَّبْرِ دُونَ إسحاق في قول تَعَالَى:" وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ" [الأنبياء: 85] وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ، وَوَصَفَهُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ في قوله:" إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ" [مريم: 54]، لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا" فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِهِ وَقَدْ وَعَدَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ" [هود: 71] فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ قَبْلَ إِنْجَازِ الْوَعْدِ فِي يَعْقُوبَ. وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ تَعْلِيقَ قَرْنِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَلَوْ كَانَ إِسْحَاقُ لَكَانَ الذَّبْحُ يَقَعُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ كُلُّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِهِ وَقَدْ وَعَدَهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ نَبِيًّا، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ من أمره ما كان، قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي. وَلَعَلَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ بعد أن ولد لإسحاق يعقوب. قال: لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ يَعْقُوبَ يُولَدُ مِنْ إِسْحَاقَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ لَكَانَ الذَّبْحُ يَقَعُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّهُمَا الذَّبِيحُ. وَهَذَا مَذْهَبٌ ثَالِثٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى " قَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ

وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ قْبَلَ أَنْ يولد له قال هو إذا لِلَّهِ ذَبِيحٌ. فَقِيلَ لَهُ فِي مَنَامِهِ: قَدْ نَذَرْتَ نَذْرًا فِفِ بِنَذْرِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَأَى فِي لَيْلَةِ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوَى فِي نَفْسِهِ أَيُّ فِكْرٍ أَهَذَا الْحُلْمُ مِنَ اللَّهِ أَمْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَسُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ رَأَى ذَلِكَ أَيْضًا وَقِيلَ لَهُ الْوَعْدُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَبَحَهُ قَالَ جِبْرِيلُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ الذَّبِيحُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَبَقِيَ سُنَّةً

وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ تَعْلِيقُ قَرْنِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ مِنْ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ يَبِسَ. أَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ بِالشَّامِ: لَعَلَّ الرَّأْسَ حُمِلَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

"وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ" أَيْ ثَنَّيْنَا عَلَيْهِمَا النِّعْمَةَ. وَقِيلَ كَثَّرْنَا وَلَدَهُمَا، أَيْ بَارَكْنَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى أَوْلَادِهِ، وَعَلَى إِسْحَاقَ حِينَ أَخْرَجَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْكِنَايَةَ فِي" عَلَيْهِ" تَعُودُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ وَأَنَّهُ هُوَ الذَّبِيحُ.

 قَالَ الْمُفَضَّلُ: الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَّ قِصَّةَ الذَّبِيحِ، فَلَمَّا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ:" وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" ثُمَّ قَالَ:" سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" قَالَ:" وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَبارَكْنا عَلَيْهِ" أَيْ عَلَى إِسْمَاعِيلَ" وَعَلَى إِسْحَاقَ" كَنَّى عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ قَالَ:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا ذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَلَيْسَ تَخْتَلِفُ الرُّوَاةُ فِي أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْحَاقَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ الْمُبَشَّرَ بِهِ هُوَ إِسْحَاقُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، فَإِذَا كَانَتِ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ نَصًّا فَالذَّبِيحُ لَا شَكَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَبُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَرَّتَيْنِ، الْأُولَى بِوِلَادَتِهِ وَالثَّانِيَةُ بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ إِلَّا فِي حَالِ الْكِبَرِ وَ" نَبِيًّا" نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْهَاءُ فِي" عَلَيْهِ" عَائِدَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ لِإِسْمَاعِيلَ فِي الْآيَةِ ذِكْرٌ حَتَّى تَرْجِعَ الْكِنَايَةُ إِلَيْهِ

وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن الذَّبِيحَيْنِ، فَضَحِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَ، نَذَرَ لِلَّهِ إِنْ سَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهَا لَيَذْبَحَنَّ أَحَدَ وَلَدِهِ لِلَّهِ، فَسَهَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا، فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ بَنُو مَخْزُومٍ، وَقَالُوا: افْدِ ابْنَكَ، فَفَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ وَهُوَ الذَّبِيحُ، وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ الذَّبِيحُ الثَّانِي فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ سَنَدَهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَعْلَامِ فِي مَعْرِفَةِ مَوْلِدِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْعَمَّ أَبًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ" [البقرة: 133] وقال تعالى:" وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ" [يوسف: 100] وَهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ


تفسير النيسابوري

اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح ، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم « أنا ابن الذبيحين » فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله . وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحداً منهم تقرباً ، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد اتلله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل ، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى ، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة . وفي رواية أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم « يا ابن الذبيحين » . فتبسم فسأل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده . فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل . حجة أخرى : نقل عن الأصمعي أنه قال : سألت ابا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة . وحجة أخرى : وصف إسماعيل بالصبر في قوله { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح في قوله { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ووصفه بصدق الوعد { إنه كان صادق الوعد } [ مريم : 54 ] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به . أخرى : { ومن وراء إسحق يعقوب } [ هود : 71 ] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه .


أضواء البيان للشنقيطي

اعْلَمْ ، وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ ، أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدْ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ ، عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقَ . أَحَدِهِمَا فِي «الصَّافَّاتِ» ، وَالثَّانِي فِي «هُودٍ» .

أَمَّا دَلَالَةُ آيَاتِ «الصَّافَّاتِ» عَلَى ذَلِكَ ، فَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [37 \ 99 - 110] ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَاطِفًا عَلَى الْبِشَارَةِ الْأُولَى : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [37 \ 112] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى شَيْءٌ غَيْرُ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ قِصَّةِ ذَبْحِهِ يَقُولُ أَيْضًا : وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ ، فَهُوَ تَكْرَارٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ أَوَّلًا الَّذِي فُدِيَ بِالذَّبْحِ الْعَظِيمِ ، هُوَ إِسْمَاعِيلُ ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا مُسْتَقِلَّةً بَعْدَ ذَلِكَ .


تفسير السعدي

{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك، فإنه ذكر بعده البشارة [بإسحاق، ولأن اللّه تعالى قال في بشراه بإسحاق { فَبَشَّرْنَاهَا] بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } فدل على أن إسحاق غير الذبيح، ووصف اللّه إسماعيل، عليه السلام بالحلم ، وهو يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى.


المنير للزحيلي:

من الذبيح؟

قال البيضاوي: والأظهر أن المخاطب به إسماعيل، لأنه الذي وهب له إثر الهجرة، ولأن البشارة بإسحاق معطوفة على البشارة بهذا الغلام، ولقوله ص فيما رواه الحاكم في المناقب: «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جدّه إسماعيل، والآخر أبوه عبد اللّه، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا، إن سهل اللّه له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل اللّه له ذلك، أقرع، فخرج السهم على عبد اللّه، ففداه بمئة من الإبل، ولذلك ثبتت الدية مائة، ولأن ذلك كان بمكة، وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة، حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن إسحاق ثمة، ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا.

وما روي أنه ص سئل: أي النسب أشرف؟ فقال: «يوسف صدّيق اللّه، ابن يعقوب إسرائيل اللّه، ابن إسحاق ذبيح اللّه، ابن إبراهيم خليل اللّه» فالصحيح أنه قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي

وقال ابن كثير: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي اللّه عنهم أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تُلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة، وهذا كتاب اللّه شاهد ومرشد إلى أنه- الذبيح- إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ .

المناسبة: هذه تتمة القصة الثانية- قصة إبراهيم عليه السلام، فبعد أن قال سبحانه وتعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن الطاقة على العمل. ثم أتبعه بقصة الذبيح إسماعيل والفداء، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين، مباركا عليه وعلى إسحاق، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما، وأن من ذريتهما محسنا فاعلا للخير، وظالما لنفسه بالمعاصي.

التفسير والبيان: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ ماذا تَرى أي فلما كبر إسماعيل وشبّ وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي والعمل، قال الفرّاء: «كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة» قال إبراهيم لابنه المأمور بذبحه وهو ابنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعدها: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال له: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟ وقد أخبره بذلك ليستعد لتنفيذ أمر اللّه، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر اللّه، وليعلم صبره لأمر اللّه، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي لازم الامتثال.

وأما ما ذكر في التوراة: «اذبح بكرك وحيدك إسحاق» فكلمة إسحاق من زياداتهم وتحريفهم لكتاب اللّه، وإلا فإن «إسحاق» لم يكن بكر إبراهيم، ولم يكن وحيده، بل الذي كان كذلك هو إسماعيل. ثم لما بذل إبراهيم ابنه للذبح وأطاع، أعطاه اللّه ولدا آخر هو إسحاق.

فأجابه إسماعيل معلنا الطاعة قائلا: قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي قال إسماعيل: امض لما أمرك اللّه من ذبحي، وافعل ما أوحي إليك، سأصبر على القضاء الإلهي، وأحتسب ذلك عند اللّه عز وجل. وهذا مصداق وصفه السابق بالحلم، ومصداق ما أخبر اللّه عنه بقوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)).( وبوصفه بالصبر في : وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين الأنبياء 85).

 قال الحسن البصري: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى (وعل) هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. وهذا قول علي رضي اللّه عنه.

وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي ووهبناه ولدا آخر وهو إسحاق، وجعلناه نبيا صالحا من زمرة الصالحين

في ظلال القرآن:

 {      }. قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره، ولو كان هو الابن الوحيد فلذة الكبد، وأنت يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا وفعلت، جدت بكل شيء، وبأعز شيء، جُدت به في رضى وهدوء وطمأنينة،  وقيل له: (إنا كذلك نجزي المحسنين) باختيارهم لمثل هذا البلاء، وبتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. وبإقدارهم وإصبارهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! وهذا ينوب عنه أي ذِبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت بذبح عظيم، قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل! ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وعظمة التسليم.


تفسير البغوي

وأما قصة الذبح قال السدي: لما دعا إبراهيم فقال: ربّ هب لي من الصالحين وبشر به، قال: هو إذا للّه ذبيح، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له: أوف بنذرك، هذا هو السبب في أمر اللّه تعالى إياه بذبح ابنه، فقال عند ذلك لإسحاق: انطلق فقرب قربانا للّه تعالى فأخذ سكينا وحبلا فانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال، فقال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ.

وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقبل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أمر في المنام أن يذبحه، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح أمن اللّه هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى في المنام ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من اللّه عزّ وجلّ، فمن ثم سمي يوم عرفةوقال ابن إسحاق وغيره: فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر، قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.


تفسير ابن أبي زمنين

قَالَ: {وفديناه بِذبح عَظِيم} فدى اللَّه - جلّ ذِكْرهإِسْمَاعِيل. قَالَ مُجَاهِد: أَي متقبّل. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَالْتَفت إِبْرَاهِيم؛ فَإِذا هُوَ بكبش أَبيض أقرن فذبحه.

قَالَ يحيى: وَابْنه الَّذِي أَرَادَ ذبحه: قَالَ الْحسن: هُوَ إِسْحَاق.

{وَتَركنَا عَلَيْهِ} أبقينا عَلَيْهِ {فِي الآخرين} الثَّنَاء الحَسَن؛ [يُرِيد الذّكر الْحَسَن لإكرامه لإسماعيل، أَلا يذكر من بعده إِلَّا بِخَير إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سُورَة الشعراء {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} يَقُول: لَا أذكر فِي جَمِيع الْأُمَم من بعدِي إِلَّا بذكرٍ حسن.


تفسير الخازن

إذا لله ذبيح، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له أوف بنذرك. هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بالذبح فقال لإسحاق انطلق نقرب لله قربانا فأخذ سكينا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت أين قربانك فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر.

 وقال محمد بن إسحاق كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يؤمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أمر في المنام بذبحه وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح تروى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي ذلك اليوم يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي ذلك اليوم يوم عرفة. وقيل رأى ذلك ثلاث ليال متتابعات فلما عزم على نحره سمي ذلك اليوم يوم النحر فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فَانْظُرْ ماذا تَرى أي في الرأي على وجه المشاورة.

تفسير القشيري

{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ } إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد ، رأى إبراهيم - عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية ، وسميت كذلك لأنه كان يُروَّي في ذلك طولَ يومه . هَلْ هُو حقٌّ أم لا؟ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق ، فسمي يوم عرفة . وكان إسماعيل ابنَ ثلاث عشرة سنة ، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات .

أن اذبح ابنك ، فقال لإسماعيل : { يَآ بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى؟ } فقال إسماعيل : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ } : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا ، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل ، فإن كان هَذا أمراً فافعل بمقتضاه ، وإن كان له تاويل فتثبت ، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ لوكن لا يمكنك تلافيه .

ويقال قال إسماعيل لأبيه : انتَ خليلُ الله وتنام . . أَلَمْ تعلَمْ أن الخليلَ إذا نام عن خليله يُؤْمَرُ بِذَبْح ابنه؟ مَالَكَ يا أَبَتِ والنوم؟

ويقال في القصة : أَمَرَ إسماعيلُ أباه أن يَشُدُّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذَّبح فَيُعاتَب ، ثم لمَّا همَّ بِذَبْحِه قال : افتحْ القيدَ عني حتى لا يقال لي: أمشدودَ اليد جئتني؟ 

ويقال أيهما كان أشدَّ بلاءً؟ قيل : إسماعيل؛ لأنه وَجَد الذَّبحَ من يد أبيه ، ولم يتعوَّد من يده إلاَّ التربية بالجميل ، وكان البلاءُ عليه أشدَّ لأنه لم يتوقع منه ذلك .


تفسير الشعراوي

قال إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم:{ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ }[الصافات: 102].

والوعد الذي صدق فيه قوله:{ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }[الصافات: 102] وصدق إسماعيل في وعده، واستسلم للذبح، ولم يتردد ولم يتراجع؛ لذلك استحق أنْ يميزه ربه بهذه الصفة { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [مريم: 54].

فلما رأى الحق ـ تبارك وتعالى ـ استسلام إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ لقضاء الله رفع عنه قضاءه وناداه:{ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }[الصافات: 104ـ107] فكانت نتيجة الصبر على هذا الابتلاء أنْ فدى الله الذبيح، وخلَّصه من الذبح، ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر:{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ }[الأنعام: 84].

وهذه لقطة قرآنية تُعلِّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء الله، ورَضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا الاستسلام، والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم لا يرضون به، والحق تبارك وتعالى لا يجبره أحد، فالقضاء نافذ نافذ، رضيتَ به أم لم تَرْضَ.

وحين تسلم لله وترضى بقضائه يرفعه عنك، أو يُبيّن لك وجه الخير فيه. إذن: عليك أن تحترم القدر وترضى به؛ لأنه من ربك الخالق الحكيم، ولا يُرفع قضاء الله عن الخلق حتى يرضوا به.


تفسير سيد طنطاوي

قال صاحب الكشاف : - وقد انطوت البشارة على ثلاثة : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، وأنه يكون حليما .

وهذا الغلام الذى بشره الله - تعالى - به . المقصود به هنا إسماعيل - عليه السلام - .

{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } أى : بشرناه بهذا الغلام الحليم ، ثم عاش هذا الغلام حتى بلغ السن التى فى إمكانه أن يسعى معه فيها ، ليساعده فى قضاء مصالحه . قيل : كانت سن إسماعيل فى ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة .

 { قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } .

أى : فلما بلغ الغلام مع أبيه هذه السن ، قال الأب لابنه : يا بنى إنى رأيت فى منامى أنى أذبحك ، فانظرماذا ترى فى شأن نفسك .

وفى رواية أنه رأى ذلك فى ليلة التروية فأخذ بفكر فى أمره ، فسميت بذلك ، فلما رأى ما رآه سابقا عرف أن هذه الرؤيا من الله ، فسمى بيوم عرفة ، ثم رأى مثل ذلك فى الليلة الثالثة فهمَّ بنحره فسمى بيوم النحر . وإنما شاوره بقوله : { فانظر مَاذَا ترى } مع أنه سينفذ ما أمره الله - تعالى - به فى منامه سواء رضى إسماعيل أم لم يرض ، لأن فى هذه المشاورة إعلاما له بما رآه ، لكى يتقبله بثبات وصبر ، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون ، وليختبر عزمه وجلده .


تفسير القطان

بعد أن نجّاه الله وهاجر الى ربه ، وكان وحيداً لم يُرزق ذرية ، فاتجه الى ربه يسأله الذريةَ الصالحة ، فاستجاب الله دعاءه بقوله : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } هو اسماعيل . وكان كما قال تعالى : من الصالحين . وشبّ وكبر ، ولما بلغ مبلغ الرجال قال له أبوه إبراهيم : يا بنيّ ، إني رأيت في المنام وحياً يطلب مني أن أذبحك تقرباً الى الله ، فانظر ماذا ترى؟ . فقال اسماعيل : يا أبت ، افعلْ ما تؤمر به ، { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } . فلما استسلما وانقادا لأوامر الله وقضائه ، ووضع ابراهيمُ ابنَه على الأرض ليذبحه ( وبذلك نجح ابراهيم وابنه في الامتحان ) ، ناداه الله تعالى { أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } وحقّقتها فعلا . وعلم الله بذلك صِدْق ابراهيم واطاعة ابنه له ولربه .

ما دمت يا ابراهيم قد جُدْتَ بأعزّ شيء عندك ، وهو ابنك الوحيد ، ( وما أعظم هذا الابتلاء الذي ابتليناك به أنت وولدك ) فقد امرنا افتداءه بكبش عظيم . واصحبت تلك سُنّةٌ له ولمن جاء بعده ، وهي سنة النحر في عيد الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم .

زاد المسير

{ فلمّا بَلَغَ معه السَّعيقال ابن السائب : كان ابن ثلاث عشرة سنة .

قوله تعالى : { إِنِّي أَرى في المنام أنِّي أذْبَحُكَ } أكثر العلماء على أنه لم ير أنه ذبحه في المنام ، وإنما المعنى أنه أُمِرََ في المنام بذبحه ، ويدُل عليه قوله { افعل ما تُؤْمَر } . وذهب بعضهم إلى أنه رأى أنه يعالج ذبحه ، ولم يَرَ إِراقة الدَّم . قال قتادة : ورؤيا الأنبياء حَقٌّ ، إِذا رأَوا شيئاً ، فعلوه . وذكر السدي عن أشياخه : أنه لمّا بشَّر جبريلُ سارة بالولد ، قال إبراهيم : هو إِذاً لله ذبيح ، فلمّا فَرَغ من بُنيان البيت ، أُتي في المنام ، فقيل له : أَوْف بنَذْرك . واختلفوا في الذَّبيح على قولين :

أحدهما : [ أنه ] إِسحاق ، قاله عمر بن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب ، والعباس ابن عبد المطلب ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو هريرة ، وأنس ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، [ ومسروق ] ، وعبيد بن عُمير ، والقاسم ابن أَبي بَزّة ، ومقاتل بن سليمان 13، واختاره ابن جرير . وهؤلاء يقولون : كانت هذه القصة بالشام . وقيل : طويت له الأرضُ حتى حمله إلى المَنْحَر بمِنىً في ساعة .

والثاني : أنه إسماعيل ، قاله ابن عمر ، وعبد الله بن سلام ، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيّب ، والشعبي ، ومجاهد ، ويوسف بن مهران ، وأبو صالح ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن سابط 11. واختلفت الرواية عن ابن عباس ، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق ، وروى عنه عطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وأبو الجوزاء ، ويوسف بن مهران أنه إسماعيل ، وروى عنه سعيد بن جبير كالقولين . وعن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والزهري ، وقتادة ، والسدي روايتان . وكذلك عن أحمد رضي الله عنه روايتان . ولكلِّ قومٍ حُجَّة ليس هذا موضعها ، وأصحابنا ينصُرون القول الأول .


وأخيرا

المفسرون القائلون هو إسحق:3 الطبري، القرطبي، زاد المسير.

المفسرون القائلون هو إسماعيل: 14 ، ستة منهم من القدامى: ابن كثير، البيضاوي، الرازي، القشيري، النيسابوري، ابن أبي زمنين، و8 منهم من المعاصرين : القطان، السعدي،  الشنقيطي، الطاهر بن عاشور، سيد قطب، الشعراوي، سيد طنطاوي، الزحيلي

ومن المفسرين من ذكروا الاثنين ولم يؤثروا رأيا على آخر 5: ابن عباس في المقباس،  وابن عبد السلام، والبغوي، والخازن، وابن عطية.

والصحابة والتابعون القائلون هو إسحق: 19 العباس ، وعمر، ، وجابر بن عبد الله، وأبو موسى الأشعري،  وابن مسعود، وكعب، ووهب بن منبه، وعكرمة، والزهري، وعبيد بن عمير، ومسروق، ومالك بن أنس، وقتادة، ومقاتل، والقاسم، وابن أبي الهذيل، وابن سابط، وزيد بن أسلم، وابن ميسرة

والقائلون منهم هو إسماعيل: 18 معاوية، وعبد الله بن سلام، وأُبيّ  ذكره ابن عطية"، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وأبو جعفر الباقر، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب، ويوسف بن مهران،  وأبو الطفيل عامر، والكلبي، والصنابحي، والربيع بن أنس، وابن إسحق، وأبو صالح، وأحمد بن حنبل، وأبو سعيد الضرير، وأبو عمر بن العلاء.

وهناك من قال بالرأيين:10 ابن عباس،  وعلي, وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعلقمة، والسدي  وعطاء والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير (هؤلاء الأربعة رووا عن ابن عباس أنه إسماعيل، وذكر بعض المفسرين أنهم رووا الرأيين.) .  

 

وهكذا يكون جمهور المفسرين القدامى، بل أغلبهم، وكل المفسرين المعاصرين يرون أن الغلام الحليم الذبيح هو إسماعيل، ويبدو أن الذين قالوا إن إسحق هو الذبيح تأثروا بما ورد في التوراة، مع أن النص في التوراة  في سفر التكوين الإصحاح 22/ 2 هو {فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلى أرض المريّة وأصعده هناك محرقة....}  والمعلوم من جمل سابقة أن إسماعيل بقي وحيدا لإبراهيم 14 سنة قبل أن يولد له الولد الثاني إسحق، ولم يكن إسحق يوما وحيدا لأبيه. فذكره في هذا النص من التحريفات التي أدخلت في التوراة.