الثلاثاء، 11 أبريل 2006

كفكفة لدموع الرجال

كفكفة لـ«دموع الرجال»
دراسة لديوان الشاعر فيصل الحجي
صدقي البيك - الرياض

يغلب على مفاهيمنا وثقافتنا، في حاضرنا وماضيا أن البكاء وذرف الدموع من صفات النساء الغالبة واللاحقة بهن «ابك مثل النساء.. تبكي خناس، فلتبكين لك النساء.. وما بكت النساء على قتيل..» وما أكثر الباكيات. وأما الرجال فإنهم «ولا يبكي على نفسه حر، ولكن دمعي في الحوادث غال...». نعم هذا صحيح، ولكن المواقف الإنسانية العاطفية، من فقْد ولد أو والدة أو عظيم أو وطن تطؤه أقدام الغزاة.. تفطر القلوب المرهفة وتعتصر الدموع من العيون، فيسكبها الشعراء عبرات على ألسنتهم. وشاعرنا الأ ستاذ فيصل الحجي من هؤلاء، الذين يتجلدون في مواقف الرجولة، ولا ينحنون للعواصف ولا تلين لهم قناة في مواجهة الشدائد؛ ولكنهم ترق نفوسهم وترهف أحاسيسهم فيذرفون الدموع الغالية عند فقد من يحبون وما يحبون.
ومن هنا جاء ديوانه «دموع الرجال» الذي يضم خمساً وثلاثين قصيدة بكى فيها ذويه وإخوانه ورفاق دربه وزملاءه، كما رثى المفاهيم والقيم التي اندثرت في هذا الزمان، وأجزاء من وطنه صوحت أشجارها وجفت أنهارها بفعل الإنسان المتحضر!
وإذا كانت هذه الدموع الغالية تذرف في مواقف الحزن والأسى فإن شاعرنا يذرفها أيضاً في مواطن الفرح الشديد الممزوج بغربة عن الوطن أو ببعد عن سائر الأهل!
وهكذا كثرت مواقفه المفجرة لدموعه الغزيرة، وكثرت قصائده في ديوانه هذا مع كثرة الأحداث التي تهز كيان الإنسان وطالت مع عمق التجربة الشعورية التي يعيشها.
وقد حرص الشاعر على أن يقدم لكل قصيدة من ديوانه بمقدمة نثرية، تضع السامع والقارئ في الجو المحرك للمشاعر قبل أن تبدأ القصيدة، وهو بذلك يحدد المناسبة، وكل شعره في هذا الديوان مرتبط بمناسبة إنسانية، وقد تطول المقدمة بعرض تفصيلات يمكن الاستغناء عنها.
ولكون شاعرنا يقر لذوي الفضل، وللعلماء الذين غرسوا فيه العلم الديني والأدب والسلوك والشعر، بفضلهم فإنه بدأ ديوانه برثاء هؤلاء، فكانت قصائده الأولى في الديوان «عالِم فقدناه، ورثاء عالم، ورثاء شاعر، وفريق (هو الأديب يحيى المعلمي)، وصديق...» كما أنه ألحق بهذه القصائد رثاءه لمن زامله في التدريس الذي أمضى فيه نحو نصف قرن من عمره، فرثى المدير، والمدرس، والمرشد الطلابي، بل رثى من اخترمه الموت من تلاميذه النجباء. (رثاء طالب، ورثاء تلميذ). ومن حق هذه القصائد الرثائية الأخيرة أن يضمها ديوانه عن معاناة المعلم وما يلاقيه ويقاسيه في هذه المهنة الجليلة والمهمة السامية التي لا تدانيها وظيفة.
وكان الشاعر حريصاً في رثائه لهؤلاء الأعلام المؤثرين في حياته، على أن يبرز أن مما يحز في نفسه عدم تمكنه من حضور مآتمهم وتشييع جنائزهم وتوديعهم، فيطلب ممن يزور ديار الأهل التي قضى فيها الشيخ سليم الرفاعي أن يقوموا عنه بهذه المهمات:
فأقرئوه تحيات معطرة
ممن تجرع صاباً في تنائيه
ما لي نصيب بأن ألقاه في عمري
هذا.. فهل أنا بالأخرى ملاقيه؟
ويعزي نفسه عن كل ذلك بأن:
يرضى الحزين بآمال اللقاء ولو
بعد الممات.. ففيها ما يواسيه
كما أنه يبرز فيهم الصفات الإسلامية التي كانت تشده إليهم وتربطه بهم، فهو يقول في رثائه للشاعر عمر بهاء الدين الأميري:
أمير طوائف الشعراء فرداً
وما ألفيت بعدك من أمير
وكنت لنا لدى (البنا) سفيراً
لتبنينا، فأكرمْ بالسفير
دعاء وحِكم
وهو في كل رثائه لهؤلاء يختم رثاءه بالدعاء إلى الله أن يغفر لهم ويتغمدهم برحمته، وأن يكرم نزلهم وأن يسكنهم فسيح جناته..
إلهي تغمده بواسع رحمة
وشفع به عند الحساب المشفعا
سألت الله أن تحيا سعيداً
حياة الخلد يا (عمر الأميري)
يا رَبَّ (يحيى) إن يحيى قد غدا
في ظلك الحاني فخفف وارحم
يا رب يا رحمن اِرحم (هاشما)
واجعل له سكنى الجنان مصيرا..
وقصائده هذه حافلة بالحكم التي يستخلصها من تجاربه في الحياة، فها هو يحث على تحمل المشاعر الشديدة:
فما الصبور بمن ماتت مشاعره
بل الذي يتلظى ثم يخفيه
ما مات من غادر الدنيا إلى جدث
إذا استمرت بدنيانا أياديه
فما قيمة الأوطان بعد مماتنا
إذا كانت الدنيا ممراً ومعبراً؟!
وتكبر المصيبة مع كبر الفقيد:
ومن كان في الدنيا كبيراً ففقده
يكون لنا من كبريات المصائب
ولن أطيل في هذه الأمور التي يشارك فيها غيره من شعراء الرثاء، ففي ما تميز به منهم كفاية.
رثاء الغوطة
فها هو يرثي غوطة دمشق، فهي حبيبة إلى قلبه، سعد بجمالها وتعلم الهوى من نسيمها العليل، وكم اتكأ على مروجها الخضراء، وكم سمع تغريد طيورها وخرير شلالاتها الصغيرة، وكم تنشّق عبيرها، واستلذ ببرودة مياه أنهارها، ولكن كل هذا الجمال والروعة قضت عليه وحشية البشر المتمدنين، الذين استبدلوا بكل ذلك بنايات من الإسمنت المسلح، فدفنوه تحت شواهق جدرانها وسقوفها.
ويستعرض ما فيها من الأشجار المثمرة، والبلدان التي اشتهر كل منها بنوع من هذه الثمار، فالورد الدوماني (دوما) والعنب الداراني (داريا) والمشمس الكسواني (الكسوة) والتوت الشامي...
أم ذي قناديل الثمار تضي بالـ
ـعنب اللذيذ الفاخر الداراني؟
بالتوت والدراق والخوخ انثنت
أغصانه... بالمشمش (الكسواني)
واستنزفوا (بردى) فجف معينه
أيعيش قلب دونما شريان؟
قد مات مشنوقاً كميتة مجرم
في (المرجة) العطشى على الشطآن
بل مات مسموماً بما قذفوا فيه من نجاسة الإنسان والحيوان، وسرى هذا السم إلى كل الحدائق الغناء التي كانت تمتد على جانبيه فتملأ الأرض على رحبها، ولم يكتفوا بذلك.
طردوا الفراشات التي دأبت على
توزيع بهجتها بكل مكان
طردوا الهزار.. فما سمعت بقفرها
إلا نعيق البوم والغربان
وحل مكان هذه الأصوات العذبة صرير المنشار يقطع الأشجار وهدير الحفارات تشق الأرض والخلاطات تغرس فيها الإسمنت والحديد لعله ينبت بدلاً من الأشجار!!
والمجرمون بحق البيئة والطبيعة أحالوها إلى مصانع ومساكن شاحبة تفتقد الحياة والحيوية، وبدلاً من أن يعمروا الأرض الجرداء حولوا الجنان إلى صحارى لا شجر فيها ولا ماء.
نامت نواطير الكروم فعربدت
فيها الثعالب من بني (البنيان)
وتبدو الغوطة ودمشق في عيني الشاعر امرأة جميلة في أوج صباها، بخديها المتوردين وببراءة نظراتها وصفاء نقيبتها، وتعرضها للموت بموت شريانها (بردى) وانتحاره، وارتكاب البشر بحقه وحقها جريمة الوأد والإعدام.
ويختم قصيدته ببيت هو القمة فيها، فهذا الدمار أفقدها جمالها وروعتها وأمنها، فدمارها وفقدها هذا الأمن متلازمان، وما حلا بها إلا لفقد البشر الإيمان، ولا عودة لأمنها وجمالها إلا بالعودة إلى الإيمان:
غاب الأمان لغيبة الإيمان فانـ
ـتظروا رجوع الأمن والإيمان
رثاء قصيدة
ومن ألطف ما في ديوانه رثاؤه لقصيدة له!! أرسلها إلى إحدى المجلات لترى فيها الحياة وتخرج إلى الناس في أبهى زينتها، ولكنها قطعت أوصالها وغيرت كلمات فيها فساءت معنى ومبنى وموسيقى، بل ماتت وأصبحت جثة هامدة مشوهة دفنت بقاياها على صفحات تلك المجلة، فهال منظرها صاحبها فهي فلذة منه روّاها بدمه وغذاها بفؤاده وكساها من سندس الضاد وآيات القرآن، وحلق بها في الخيال فكانت عنده غادة ازينت وتبخترت بين قصائده، ولكنها استحالت جثة شوهاء على يد صديقه الذي سامها خسفاً، من غير أن يأخذ رأي صاحب القصيدة، فرثاها صاحبها:
حسناء ألبسها القريض بهاء
كيف استحالت جثة شوهاء؟
حوراء كحلها (الذكي) كأنه
يهب الجمال، فأصبحت عمياء
وينهال على صديقه هذا تقريعاً ولوماً على ما ارتكبه في حق قصيدته:
يا مانح الجسم الصحيح دواءه
احفظ دواءك إن أردت شفاء
لأن هذا الدواء وهذا التعديل والتغيير في القصيدة، وإن ناسب هذا الصديق، هو سم قاتل تغلغل في ثنايا القصيدة وأضعف أعضاءها وشوهها.
فارحم قصديتنا ولا تعرض لها
وانظم هناك قصيدة عصماء
ليس البراعة أن تهدّم شامخاً
إن البراعة أن تقيم بناء
رثاء المفاهيم والقيم
وقد تفرد شاعرنا أبو أنس برثاء أصناف أخرى لم يشاركه فيها أحد، فقد خص عدة مفاهيم وقيم إنسانية بقصائد رثائية، عندما وجد هذه القيم والمفاهيم تتلاشى وتموت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتحل مكانها المادية والأثرة، فرثى «الأخوة» و«الحياء» و«الأمل» و«الرجولة»، وبكى «الرحيل» و«الغربة».
ففي رثائه للأخوة يمثل نفسه بلبلاً صداحاً أعرض عنه أصحابه مع أن وشائج القربى والدين واللغة تشده إليهم، ومع ذلك تجاهلوه وأهملوه وعدوه غريباً عنهم:
كيف عدوني غريباً وأنا
مسلم الدين وأرضي عربية؟!
أتراهم وجدوا في لهجتي
لكنة مدخولة أو أعجمية؟
ويتعجب من إعراضهم عن إنشاده مع أنه يصدر عنه بلا مقابل.
فلماذا أعرض الصحب فلم
يطربوا من عزف ألحاني الشجية؟
أيضوع العشب لمّا يُشترى؟
ويضيع الورد إن جاء هدية؟!
ويختم رثاءه لهذه الأخوة التي طعنت فسالت دماؤها:
نزف الجرح فسالت دفقة
فوق أوتاري.. وللنزف بقية
وفي رثائه للرجولة في أسواق النخاسة يرى أن الأسواق غلت فيها الأشياء المادية ورخصت الرجال، فصرتَ عاجزاً عن شراء الخضراوات لغلاء ثمنها، ولم يبق رخيصاً أمامك إلا البشر: فأنت
لا تشتري فجلاً ولا بصلاً
ولا تشتري خساً ولا جزراً
فإذا رغبت في الشراء وأنت قليل ذات اليد فاشتر الرجال فهم أرخص من الخضراوات، وأسعارهم مغرية!!:
إن شئت شيئاً هان مطلبه
شيئاً رخيصاً فاشتر البشرا
وهؤلاء الرجال فيهم المكّار والكذاب والمزور والمرتشي وباعة الأوطان وفاقدو الدين...، وهم مع رخص أسعارهم يشكلون بضاعة فاسدة لا تستحق أن يدفع فيها أي ثمن، لذلك:
دع هذه الأشكال، تنسفها
هوجاء تمحو الزيف والقذرا
ولم يبق يستحق الوصف بالرجولة إلا من يخوض معارك البطولة والتضحيات في كابول والقدس، وفي سجون الظالمين والمستعمرين، وفي محاريب العابدين، فهم الذين يعلق عليهم الآمال، ويراهم نجوماً تضيء للسارين دروبهم:
يا أيها النجم الصغير أضئ
درب الأماني بعدما اعتكرا
يكفي شعاع منك يا أملي
حتى يفوق الشمس والقمرا
كما يراهم قادة يرفعون رايات النصر ويزفون البشرى إلى أمتهم.
وكذلك ينعى الشاعر الحياء الذي اختفى لدى بنات العصر بعد أن شوهن أجسادهن بالمساحيق وتعرين، وتشبهن بالرجال في لباسهن، فضاع حياؤهن ومعه فقدن احترام الرجال وتقديرهم لهن.
كما خابت آ مال الشباب وتحطمت طموحات لطلاب بعد أن سدت في وجوه المتفوقين منهم أبواب الدراسات الجامعة.
دموع الفرح
وإذا كانت صفحات الديوان السابقة مجللة بالألم وبالحزن فتجري الدموع الحارة من العيون، وإذا كانت هذه الصفحات أيضاً تطبع مشاعر القارئ بالأسى والحسرة من كثرة المصائب والكوارث التي تلحق بنا جماعات وفرادى.. فإن الشاعر أبى أن يختم ديوانه هكذا، فإن للدموع معنى آخر وسبباً ثانياً، فحين تشتد الأزمات ثم يحل الفرح بمولود أو زواج أو عودة غائب، تعبّر العيون عن فرحها هذا بذرف دموع الفرح.
فها هو شاعرنا يذرف دموع فرحه عندما تأتيه صور أهله الذين طال غيابه عنهم، ويطيل النظر إليهم، ويرى ما لحقهم من تقدم في السن فالصغار شبوا والشباب اكتهلوا والكهول شاخوا وهرموا، ويصرفه عن ذلك كله رؤية بريق المحبة له والشوق إليه ينعث من عيونهم فينسى غربته وحزنه وألمه:
غنى بروضتنا الهزار وأضاء ليلتنا النهار
يا قلب أطفئ موقد الأحزان فالأحباب زاروا
وفي هذا الموقف الرائع يرى أنه صار بينهم فيمد يده للمصحافة ويفتح ذراعيه للمعانقة، فهو يحيا بينهم:
امدد يديك مصافحاً فلــربما نطق الإطــار
أقبل وعائق جمعهم أسرع فما بقي اصطبار
وينطلق يخاطبهم بسؤال كل منهم عن حاله، يسأل أمه وأباه وإخوانه وأعمامه ويسأل الحاضرين منهم عمن لم يحضر (في الصورة) وعن الصغار والجيران وعن المرابع والديار..
ويفعل مثل ذلك في (البشرى) بقدوم مولودة له، وفي (فرحته) بزواج ولد له أو بنت أو بولادة حفيد له يشعره بأنه صار جداً تقدمت به السن!!
ويضيق بنا المقام عن تقصي ما في الديوان من سلاسة ألفاظ وسمو خيال وصدق عاطفة رقيقة وتنوع موسيقى يوصله إلى خوض ساقية من الشعر الحر متخلياً فيها عن بحور الشعر العربية الواسعة..
1-4

ليست هناك تعليقات: