الأحد، 19 فبراير 2012

نساء تحدث عنهن القرآن5

نساء تحدث عنهن القرآن (5)

صدقي البيك

15\2\2012
نساء تحدث عنهن القرآن (5)
نساء حول الرسول

تحدثنا من قبل عن النسوةِ الصالحات اللاتي تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم[1]، من مجتمعاتِ الأنبياء السابقين لعصر خاتم النبيين، وكما تحدث القرآنُ عن أولئك النسوة الصالحات في تلك المجتمعات، تحدَّثَ أيضًا عن عدة نساءٍ من عصرِ نبوة محمد - عليه السلام - ليكنَّ قدوةً للمسلماتِ في القرون التالية:
1- زينب بنت جحش: أول هؤلاء النسوة: زينب بنت جحش، وأمها أميمةُ بنت عبدِالمطلب، عمة الرسول - عليه السلام - وهي امرأةٌ ذات حسب وجمال، زوَّجها الرَّسولُ - عليه السلام - من مولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وكان قد تبناه قبل البعثة، وصار يُقال له: زيدُ بن محمد؛ عندما آثر البقاءَ عنده على الذَّهابِ مع أبيه وعمِّه، وبعد أن أنزل الله تعالى في حقِّ زيد وأمثالِه: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ [الأحزاب : 4 ، 5]، ولكن زينب عاشت سنةً مع زيد على مضض، وتعكَّرتْ بينهما العلاقةُ الزوجية إلى حدٍّ لم يبق زيد يطيقُه، ولعلَّ كون زيد مولى لمحمد لا ولدًا له، أشعر زينبَ بأنه دونها حسبًا ونسبًا، فتعَالَت عليه مما نغَّصَ حياتهما، فعرض زيد على الرَّسولِ - عليه السلام - أن يطلقَها، ولكن الرسولَ - عليه السلام - كان يشدِّدُ على زيد في أن يمسكَ زوجته، وأن يبقي عشَّ الزوجية عامرًا؛ ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب : 37]، فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتوقَّعُ هزةً اجتماعية في مجتمع المدينة، بعد أن هدأت هزةُ إلغاء التبنِّي.
وكان الرسول - عليه السلام - يعلمُ بما أعلمه الله، أنَّ تغييرًا نفسيًّا سيحدث في المجتمعِ الإسلامي الذي كان في جاهليته قد اعتاد على مفهومِ التبني، وليكتمل إلغاء هذا المفهوم عمليًّا، قدَّرَ الله على محمد - عليه السلام - أن يتزوجَ بمطلقةِ مَن كان يُعدُّ سابقًا ولده (بالتبني)، وهذا الحدث يشكِّلُ صدمةً عملية للمفهوم الذي كان سائدًا في السابق، ومن هنا حرص الرسولُ - عليه السلام - على أن تبقى زينب عند زيد؛ ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب : 37].
فمحمَّدٌ - عليه السلام - كان يشفقُ على المسلمين من هذه الصدمةِ النفسية، لما اصطلحوا عليه واعتادوه، ولكنَّ الله قدَّر، ولا رادَّ لذلك، أن يضعَ حدًّا لهذا المفهومِ الخاطئ؛ من نسبةِ الولد المُتبنَّى إلى غيرِ أبيه، ومعاملته معاملةَ الولدِ من الصلب، وراثة وحرمة، وذلك بأن يتزوجَ محمد من مطلقة زيد! ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب : 37 ، 38]، وهكذا أصبحت زينب إحدى زوجاتِ الرسول - عليه السلام - وإحدى أمهات المؤمنين، وزادت شرفًا إذ نزل فيها قرآنٌ يتلى، وكانت عنصرًا أساسيًّا في إلغاءِ متعلقات التبني ولواحقه.
2- عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: وأمَّا المرأة الثانية التي نزل فيها قرآنٌ فهي عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنها وعن أبيها، نزل فيها قرآنٌ يبرئها من تهمةٍ لاكتها ألسنةُ السوء، التي تحدثت بحديثِ الإفك، فكانت عائشة بذلك طاهرةً مطهرة مبرأة، ونتلو براءتها في عشرِ آيات من سورة النور، على مرِّ الزمان، فقد كانت - رضي الله عنهما - مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة بني المصطلق، وألجأتها حاجتُها إلى الابتعادِ عن الرَّكبِ ليلاً لقضائها، وعندما عادت افتقدت عِقدًا رجعت تبحث عنه، وطال بحثُها فارتحل الركبُ قبل أن تعود، وعندما رجعت وجدت المكانَ خاليًا من الجيش، فقعدت تنتظرُ عودةَ من يبحث عنها عندما يفتقدونها، وأقبل عليها صفوانُ بن المعطل المكلف بتعقبِ الجيش وجمع ما يتساقَطُ منه، وعرفها فاسترجع وأناخ راحلةً فركبتها، وسارت حتى أدركا الجيشَ ظهرًا، وهنا بدأت ألسنةُ السوء تتحدَّثُ بالسوء على عائشة، وكان من الذين جاهروا بذلك حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثه، وحمنة بنت جحش - أخت زينب بنت جحش زوجة الرسول - وتولَّى كبرَ هذا الإفك عبدالله بن أبي بن سلول، وعائشة لا تدري بما تتداولُه الألسنة عنها، واستلبث الوحي شهرًا حتى علمتْ بالأمر واشتدت عليها وعلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - القضية، ثم نزلت آياتُ سورة النور تبرئها: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور : 11]، ثم أعطت الآياتُ التالية درسًا للمسلمين وتأديبًا لهم: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور : 12]، فهكذا ينبغي أن يكونَ تصرفُ المسلمين أنْ يحسنوا الظنَّ بأنفسهم وبأمِّ المؤمنين، ويتورَّعوا عن الاتهامِ أو الحديث به، وقد تمثلت هذه التربية في الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عندما قالت له زوجته: "أمَا تسمع ما يقولُ الناسُ في عائشة؟ فقال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمَّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنتُ فاعلة، فقال لها: وعائشة والله خيرٌ منك!"، هكذا يكون حسنُ الظن بأمهاتِ المؤمنين، وهكذا يظن المؤمنون بأنفسِهم خيرًا.
وقد قرع الله بعضَ المسلمين على ما قالوه؛ ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، وأي شيء أعظم من أن تتهمَ زوجةُ الرسول - عليه السلام - في عرضِها وكرامتها! وأي شيء أعظم من أن يُهان الرسولُ - عليه السلام - في اتهامِ أهله وأحب أهله إليه!
وهكذا بُرِّئت عائشةُ - رضي الله عنها - وباء بالخزي والقذف والحد أولئك الذين جاهروا بالاتهام، وتوعَّد الله من تولَّى كبر هذه الفرية من وراء ستار بالعذاب الأليم.
عائشة وحفصة:
3- وكان لعائشة ومعها حفصة - رضي الله عنهما - موقفٌ آخر تناوله القرآنُ الكريم، وتنزلت فيه آياتٌ من سورةِ التحريم؛ وذلك أنَّ عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - تواطأتا على أن تقولَ أيُّ واحدة منهما يدخلُ عليها النبيُّ - عليه السلام - بعد مجيئه من عند زينب: "إني أجدُ منك ريحَ المغافير - نبت له رائحة مميزة"، ودخل النبي على حفصةَ، فقالت له ذلك، فقال: ((لا، ولكنِّي كنتُ أشرب عسلاً عند زينب، فلن أعودَ له، وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحدًا))، ولكنَّ حفصة أخبرت عائشةَ، وكان هذا التواطؤ أو التظاهر منهما على النبي - عليه السلام - سببًا في نزولِ قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التحريم : 1]، ثم قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [التحريم : 3]، ويوجه الله - تعالى - إليهما (حفصة وعائشة) تهديدًا شديدًا: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم : 4]، ووصل هذا التهديد إلى الطَّلاقِ: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [التحريم : 5]، وبذلك كان هذا الحدثُ درسًا لنساء النبي - عليه السلام - ولنساءِ كلِّ مسلم، أن يحافظنَ على أسرار البيت والزوج، وأن يرعين حقَّه، وأن يبتعدن عن التواطؤ على غيرهن والكيد لهن، وعن التظاهرِ على الأزواج.
هذا مع العلم أنَّ هناك روايتين أخريين تذكرهما كتبُ التفسير في سبب نزول هده الآيات غير السبب السابق، ولكن حفصة وعائشة شريكتان في كل الروايات.
4- ومن اللواتي نزل فيهنَّ قرآنٌ من غيرِ زوجات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت، الذي كان شيخًا كبيرًا وقد ساء خلقُه، ودخل على زوجته يومًا فراجعته بشيءٍ فغضب عليها، وظاهر منها - قال لها: أنت علي كظهر أمي - يريدُ بذلك أن يحرمَها على نفسِه، على عادةٍ كانت سائدةً في الجاهلية، ومع ذلك رجع إليها بعد قليلٍ وأرادها عن نفسِها، فامتنعت منه حتى يحكمَ الله ورسوله فيهما، فواثبها وغلبتْه بما تغلب المرأةُ الشيخَ الضعيف، وأبعدته عن نفسِها، ثم خرجت إلى بيتِ النبي، وذكرت له ما لقيت من زوجِها: "يا رسول الله، أكلَ مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطعَ ولدي ظاهر منِّي، اللهمَّ إني أشكو إليك"، فجعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول لها: ((يا خولة، ابنُ عمِّك شيخ كبير فاتقي الله فيه، ما أعلمك إلا قد حرمتِ عليه))، فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي وأشكو أبا صبيتي، فرأت عائشةُ وجهَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد تغير، إيذانًا بنزول الوحي عليه، فنحتها عنه، ومكث رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غشيانه، فلمَّا انقطع عنه الوحي قال: ((يا عائشة، أين المرأة؟ فدعتها، فقال لها رسولُ الله - عليه السلام -: ((يا خولة، قد أنزل الله فيكِ وفي صاحبك، ثم قرأ عليها: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المجادلة : 1 - 4]))، وقال لها الرسولُ - عليه السلام -: ((مُريه فليعتق رقبة))، فقالت: ما عنده ما يعتق، قال: ((فليصمْ شهرين متتابعين))، قالت: والله إنه شيخٌ كبير ما به من صيام، قال: ((فليطعم ستين مسكينًا وسقًا - ستين صاعًا - من تمر))، قالت: يا رسول اللهِ، ما ذاك عنده، فأعانه الرسولُ بثلاثين صاعًا، وأعانته زوجته بثلاثين.
وهكذا كان تصرف هذه المرأة المسلمة وحوارها مع رسول الله - عليه السلام - سببًا لنزولِ هذه الآيات وتشريع الظِّهار، وتأديب الرِّجال الذين يطلِقُون ألسنتَهم بهذه الأقوال الجاهلية من غير تدبر لعواقبها.
وقد لقيتْ خولةُ هذه مرةً عمرَ بن الخطاب في خلافته فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسَه، حتى أنهت حديثَها وانصرفتْ، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! فقال له عمر: "ويحك! أتدري من هذه؟"، قال: لا، فقال له: "هذه امرأةٌ سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرفْ عني إلى الليلِ ما انصرفتُ حتى تقضي حاجتَها".
وهكذا كانت هذه المظاهرة من أوس لزوجتِه خولة فرصةً لها ليذكر قصتَها القرآن، وتردد ألسنةُ المسلمين شكواها كلَّما قرؤوا القرآن.
وهكذا يستذكرُ المسلمون مواقفَ هؤلاء النسوة؛ الصالحات منهنَّ والطالحات، اللواتي تحدثَ عنهنَّ القرآن، كلما قرؤوا كتاب الله ومرت معهم الآيات التي تناولت قضاياهنَّ، فرضي الله عن الصالحاتِ منهنَّ، وجعلهنَّ الله قدوةً للمؤمنات، وأنزل الله على الطالحات منهنَّ ما يستحققن من العذابِ ليكنَّ عبرة للطالحات من النساء.




الأربعاء، 1 فبراير 2012

نساء تحدث عنهن القرآن 4

ممهدات لعيسى - عليه السلام

وإذا كان حول موسى - عليه السلام - عددٌ من النسوةِ اللاتي حضنه ورعينه وســِرْن معه، فإنَّ عيسى - عليه السلام - وهو آخر أنبياء بني إسرائيل قد سبقَهُ عددٌ من النِّسوةِ المؤمنات تحدَّث عنهنَّ القرآن، وكل شأنهنَّ الذي أبرزه الله - تعالى - يتمثلُ في التمهيدِ لمعجزة عيسى - عليه السَّلام - تلك المعجزة المرتبطة بولادتِه، وكانت السماتُ البارزة في حياتهنَّ تدورُ حول الولادة!

7- وأولهنَّ جدته لأمِّه امرأة عمران، واسمها: (حنة)، وكانت لا تحملُ، واشتهت أن يكونَ لها ولدٌ، فدعت الله وحملتْ متأخرة، فنذرتْ ما في بطنِها لله، خالصًا لخدمة بيت المقدس، وكانت تتوقعُ أن يكونَ المولودُ ذكرًا، ولذلك نذرته، إلا أنَّها عندما وضعتْ وضعتْ أنثى، وسمتْها: (مريم)، ولكنَّها كانت قد نذرت ما في بطنِها ولم تحدِّد غير ذلك، فلزمها أن تقدِّمَ مولودتَها للمعبد، وهي تعلمُ أنَّ الذَّكرَ أجل وأقدر على خدمةِ المعبد من المرأة، ولكن لا مناصَ من تقديمها للمعبد، ومن قبل أن يقوى عودُها ويشتدَّ ساعدُها، كانت بحاجةٍ إلى من يكفلُها من الصَّالحين المشرفين على إدارةِ شؤون المعبد، ودعت لها وأعاذتها باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، كما أعاذت باللهِ ذريتَها، وكأنها تستشفُّ المستقبل، واستجاب الله لها، فتقبَّلَ مولودتَها وأنبتها نباتًا حسنًا، وجعل كفالتَها لزوجِ خالتها زكريا - عليه السلام - بعد أن اقترعَ مع بقيةِ المشتركين في حجابة البيت؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم حرص على كفالتِها وألقوا أقلامَهم في النهر، وصاحب القلم السابق يكون كفيلها، وكان ذلك من نصيبِ زكريا - عليه السَّلام - وعاشت في المحرابِ - غرفة في جدارِ المعبد تُتخذ للعبادة - وعندما شبَّتْ كان زكريا كلما دخَلَ عليها في هذا المحرابِ وجد عندها رزقًا - طعامًا من الفاكهةِ في غير أوانه – فيسألها: من أين لك هذا الطعام؟ فتجيبه: هو من عند الله، كرامة من عندِ الله لهذه الفتاة التي خاطبتها الملائكةُ مبشرةً لها باصطفاءِ الله لها وتطهيرها واصطفائها على نساءِ العالمين.

هذه المرأة الطاهرة المصطفاة هي مريم أمُّ عيسى - عليه السلام - ذرية بعضُها من بعض، ويكفيها فخرًا أنها المرأةُ الوحيدة التي ذكر اسمها صريحًا في القرآن الكريم، ولعلَّ في هذا اصطفاء لها أيضًا.

8- وكان لولادةِ (حنة) امرأة عمران لابنتِها مريم، مع تأخُّرِها في الحمل، ولِمَا رآه زكريا عليه السلام من إكرامِ الله تعالى لمريم في المحراب - أثرٌ على قلبِه المفعم بالإيمان والثقة بالله، وعدم اليأس، فالله قادرٌ على أن يرزقَه الولدَ على رغم يقينِه بأنَّ امرأته - أخت امرأة عمران - عاقر، وعلى رغمِ تقدمِه في السن، فقد وهن عظمُه واشتعل الشيبُ في رأسِه، ولذلك توجَّهَ إلى الله بالدُّعاءِ أن يرزقَه الله ذريةً طيبة، ولدًا تقرُّ به عينه ويرث علمَه وعلم آل يعقوب، وسأل الله أن يكونَ هذا الولدُ رضيًّا، وهكذا استجاب الله لدعاءِ هذا النبي فحملت زوجُه العاقر، وكانت البشرى من الله لزكريا بغلامٍِ وسماه الله تعالى: (يحيى)، وجعله سيدًا وحصورًا ونبيًّا، هذا عطاءُ الله، وهكذا كانت كرامةُ هذه المرأة مرتبطةً بالولادةِ في سنٍّ غير مألوف فيها إنجاب المرأة.

9- والمرأة الثالثة هي مريم ابنة عمران، تلك التي كانت ولادة أمِّها لها كرامة، وحياتها في المحرابِ كرامة، وولادتها لابنها عيسى معجزة في حقِّ عيسى - عليه السلام.

فتاةٌ غير متزوجة تقيَّة نقية، تخرجُ من المعبد الذي نُذرت لخدمتِه متجهة إلى الشرقِ منه، وتحتجب عن أهلِها، فيتمثل لها الملكُ بشرًا سويًّا، فترتعب منه وتستعيذ بالله منه، فإذا هو يعلمُها أنه رسولُ الله إليها ليهب لها غلامًا زكيًّا، وكيف يكون لها غلامٌ وهي لم تتزوج ولم يمسها بشر؟! ولكنها قدرةُ الله وإرادته، فما أهون هذا الأمر! وكان حملها أمرًا مقضيًّا في الحال، وتمتد بها أيامُ الحمل حتى ثقل عليها، فخرجت إلى مكانٍ قصي عن المعبد، وحانت ساعةُ المخاض فألجأها إلى جذعِ النخلة تتكئ عليه، ويعتصر قلبُها أمران: آلام المخاض، والتفكير في موقفها أمام قومِها بعد ولادتِها، فتمنت أن تكونَ قد ماتت قبل هذه الحالة ونسيها الناس، وجاءها المددُ والغوث من عالم الغيب وواقع المعجزات، فتسمع كلامًا من هذا الوليدِ أو من الملك يربطُ على قلبِها ويهدئ روعها: لا تحزني، فتحتك نهر يزيلُ عنكِ أوضارَ الولادة، وفوقك طعامُ رُطَبٍ جني يتساقطُ عليك إذا هززتِ جذعَ النخلة! ويعلمها كيف تواجه قومَها في هذا الموقفِ العصيب، بلا كلام، إشارة باليدِ إلى المولود وكفى، وهو يتولَّى الدفاعَ عنها، مولود في أيامه الأولى يدافعُ عن أمِّه بلسانه! بكلامه! معجزة تلي معجزة، معجزة ولادته من غيرِ أب، ومعجزة كلامِه في المهد! ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ [مريم : 30]، كلامٌ حازم يسمعونه بآذانهم يبرئ أمَّه، ويعلمهم بعبوديتِه لله، وجعله نبيًّا يتنزل عليه كتابُ الله، هل اقتنعَ بنو إسرائيل بكلِّ هذه الدلائل، وهذه المعجزات؟

إنَّ القلوبَ القاسية تستعصي على الإيمانِ والتصديق، فاتهموا مريمَ التي رافقت ولدَها في أيامِ حياته العادية متنقلةً به من مكانٍ إلى مكان خوفًا من الحكامِ الظلمة، وخوفًا من الكهنةِ الذين يأكلون الدنيا بالدين، وينكرون معجزاتِ ربِّ العالمين، ولا يصدقون بزكريا ويحيى وعيسى، وهكذا أحاطت بحياةِ عيسى - عليه السلام - هذه الكوكبةُ من النِّساءِ اللاتي كانت كراماتُهنَّ مرتبطةً بطبيعة معجزة عيسى الكبرى؛ الولادة غير المعتادة، ولادة بعد عقم، ولادة بعد كبر، وولادة من غير أب! فسبحان الله الذي يؤيد رسله بالمعجزات!