الأحد، 24 فبراير 2013

القدس في شعر الدكتور حيدر الغدير

القدس في شعر د.حيدر الغدير


بقلم : صدقي البيك - الرياض

للأمكنة والبلاد مكانة مرموقة لدى الشعراء، فهي تحدد لنا في شعرهم ارتباطهم بهذه المواقع، ارتباطًا قلبيًا وعقليًا وروحيًا ونفسيًا، هذا إذا كانت هذه المواقع ذات خصوصية في وجدانهم؛ وقد ينفرد كل شاعر بمواقع ومنازل لا يشاركه فيها غيره، يكون قد درج فيها، أو ارتبط فيها بروابط عاطفية مع آخرين.

وأما إذا كانت هذه المواقع ذات ارتباط عام يشترك فيه مع آخرين، من شعبه أو أمته أو الإنسانية كلها فسيكون لها في شعره وجود ومكانة تتسع وتسمو وتتعمق مع عمق وسعة وسمو هذه الروابط التي تشده إليها. وأهم هذه الروابط الرابطة الدينية التي تضفي على بعض الأمكنة هالة من القداسة تنص عليها الكتب الدينية المعتمدة، وإذا كانت هذه الكتب مما أوحاه رب البشر إلى من اختارهم من عباده، كانت هذه الروابط أقوى وأمتن، وإذا ضُمّت إلى هذه الروابط روابط التاريخ والأمجاد ازدادت رسوخًا وتجذرًا.

وهذا هو شأن مدينة القدس، فقد حباها الله منزلة لا تطاولها فيها مدينة أو أرض أخرى، غير مكة المكرمة، فهي الأرض المباركة، والمبارك فيها، والأرض المقدسة، والمبارك حول مسجدها و...، وهذه القداسة والمباركة تمتد مع امتداد الإسلام، دين الله الذي اختاره لأنبيائه ورضيه لعباده.

وإذا كانت هذه الرابطة الروحية تمتّن علاقات المسلمين بالقدس التي فيها أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، فمن الأولى أن تكون مهوى أفئدة الشعراء المسلمين، وأن تهفو إليها نفوسهم، وتلهج يذكرها ألسنتهم فتتردد في أشعارهم، ويزيدها تغلغلًا في طيات وجدانهم أنها، هي وما ترمز إليه، كانت وتكون وستكون ميدانًا لصراعات وحروب طويلة ومعارك حاسمة مع أعداء أقوياء وكثيرين، من فتحها على يدي الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتحطيم القوى الصليبية في حطين، وكسر المد التتري المغولي في عين جالوت... إلى معارك علامات الساعة المرتقبة.

إن القدس والأقصى وقبة الصخرة وبيت المقدس وفلسطين، وما تضمه من مدن ومواقع، وما تمتلكه من تاريخ مجيد وبطولات رائعة وانتصارات حددت مسارات التاريخ، كلها رموز تترادف في دلالتها العامة، وإن كان لكل منها دلالة خاصة.

وإذا تخطينا ما حفلت به دواوين شعرائنا القدامى من حديث عن هذه المدينة وما حولها، فلن نجد نهاية للحديث عنها في دواوين شعرائنا المعاصرين، فما أكثرهم، وما أوسع تناولهم لها ولقداستها ولمعاركها الماثلة في حاضرنا وفي وجداننا، ولكننا نجتزئ من هذا الاهتمام بها ما قدمه لنا شاعرنا الدكتور حيدر الغدير.

فقد اختار شاعرنا عنوان ديوانه الثاني (غدًا نأتيك يا أقصى) ليعبر به عن مدى تعلّقه بهذا المسجد المبارك والمدينة المقدسة وأرض المحشر والمنشر، وقد كان هذا هو عنوان قصيدته الأولى في هذا الديوان.

فهو يحز في نفسه ما أصاب القدس من احتلال العدو الصهيوني لها، وإهاناته التي ألحقها بمسجدها ففجرت انتفاضتها الثانية، وتطاولُ الزمن على تقاعس العرب والمسلمين عن تحريرها فيجأر بمعاهدة الأقصى على عدم نسيانه، وعلى تحريره:

لعهدك أيها الأقصى
وعهدك جمرة فينا
وحلم في مآقينا 
 ينادينا فلا ننسى
وكل خلية فينا
هي الأخرى تنادينا:
إلى الأقصى إلى الأقصى.

وهو في تلبية هذا النداء، وفي الوفاء بهذا العهد لن يكتفي بالكلام، بل سيكون حربًا على العدو تقضي على علوّه وجبروته:

سنأتي في غد نارًا

وبركانًا وإعصارًا

لنصنع مرة أخرى، وقد لاحت لنا البشرى، بعون الله حطينًا.

ويجمع بين رمز حطين التي كانت مفتاح تحرير القدس من الصليبين ورمز خيبر التي قضي فيها على الوجود اليهودي الكياني في الجزيرة العربية:

ونغضب غضبة كبرى

ونصنع خيبرًا أخرى

ونحمي الأرض والدينا.

وإذا كانت حطين تحطيمًا للقوى الصليبية قديمًا فستكون حطيننا الحديثة وخيبرنا الجديدة تحطيمًا للكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين:

نتبّر كل ما شدتم

وما قلتم وما خنتم

ونمحوكم ونجعلكم حديثًا مر كالهمس

وآلًا لاح كالأمس.

فهو متفائل بالنصر، ولم توئسه الهزائم التي ارتكبها المتخاذلون، فلا يطيل البكاء على ما فات ولا الندب على المصاب، ويحدد عوامل النصر التي نحملها قيمًا ومبادئ:

غدًا نأتيك يا أقصى

كتاب الله في يدنا ينادينا لموعدنا

وموعدنا صباح ظافر ضاحكْ

وموعدهم مساء خاسر حالك

وإن الصبح آتينا وآتيكم

ليرديكم ويبقينا

فنمضي نعمر الدنيا

ونمضي نحرس الدينا.

ولن تمنع هؤلاء الصهاينة حصونهم التي يختبئون وراءها، ولا دباباتهم التي يحبسون فيها أنفسهم، ولا جُدرهم الواقية التي يحيطون بها مستوطناتهم:

سنأتيكم مع الفجر

لنجعل صرحكم بددًا، ولا نبقي به أحدًا

ولن يحميْكمُ سور، ولا شجر ولا حجر، ولا نفق ولا حصنٌ

ولا إنس ولا جن، ولا حقل من الغرقدْ

ظننتم فيه مخبأكم ومثواكم وملجأكم

فإن صباحكم أنكدْ

وإن مساءكم أربدْ

فموتوا حيثما كنتم، وموتوا في حمى الغرقدْ

فوعود الله للمؤمنين بالنصر ووعيده لبني إسرائيل بالهزيمة وإساءة الوجوه والتتبير... في طريقها إلى التحقق:

لنا عهد سننجزه، ووعد سوف نحرزه

بأن النصر آتينا.

وهو واثق تمامًا بأن النصر قادم يتمثل بالمآذن التي تصدح بالشهادتين، وبكل العالم والمدن الفلسطينية:

سنلقى نصرنا طلقًا

يعانق حسنه الحقا

ويقفو رعده البرقا

على أهداب مئذنةٍ

وفي أوراق سوسنة

وفي أحلام رابية، وفي ماء وساقيةٍ

وفي يافا وفي عكا وفي صفد وفي الرملةْْ

وفي النارنج والليمون والتفاح والفل

سقاها الطل في الليلِ

وفي الخيل التي تعدو

وفي الطير التي تشدو.

فكل هذه المعالم والمرابع تحتفل بالنصر الذي تتلاقى فيه رايات الفتوحات والانتصارات السابقة واللاحقة:

فنلقى الفاتح الأولْ

أبا حفص بهيبتهِ

ونلقى الفاتح الثاني

صلاحًا في وضاءتهِ

ونلقى الفاتح الثالثْ

فنعرفه بطلعته، وقامته التي شمختْ، وسطوته ورحمتهِ.

هذا الفاتح الثالث الذي ما زلنا ننتظره ونرقبه؛ لنسجد حينئذ شكرًا لله الذي يهب كتائبنا وزحوفنا نصره المؤزّر.

وإذا كانت قصيدته هذه قد استوعبت كل ما في القدس وحاضرها، ومصابها، والآمال المعقودة على تحريرها وتطهيرها من دنس المحتلين، فإن قصائده الأخرى التي نظمها في مناسبات عربية وإسلامية، احتلت فيها القدس والأقصى وفلسطين أماكنها، فهي شغله الشاغل ومحركه الدائم وحافزه إلى التفاؤل الواثق الذي يظهر في كل قصائده.

فهو في قصيدته (لن نخذلك) عن شعب البوسنة والهرسك في أيام ثورته للتحرر من سيطرة الصرب واحتلالهم لبلاده، لا ينسى أن يبعث له بتحيات المسلمين والمجاهدين ومشاركتهم لهم بالآلام والآمال:

يا أيها الشعب الذي احتمل الخطوب وما استكان

حيّتك مكة والمدينة والمنابر والأذان

والمسجد الأقصى وفرسان لهم في المجد شان

قالوا وقد صدقوا، فزانوا قولهم والفعل زان

المجد للأبطال والخذلان توأمه الجبان

وفي قصيدته (أمـل) يتحدث عن أحلامه السابقة، التي صارت واقعًا حيًا، وعن آماله وأمانيه التي يتفاءل ويستبشر بتحققها قريبًا:

أحلامـنا بالأمس واقـع يومنا وغـدًا أماني يـومـنا تتحقّق

أملي الذي ملأ الجوانح بهجة ومشى بما أرجو وأزهو يغدق



وأمله هذا أن تثأر فيالق المجاهدين وقادتهم ذوو الهمم القعساء، فتقضي على الصهاينة حديثًا كما قضي على وجودهم السياسي في عهد الرسالة، فيقول:

أني سمعت الثأر يدعو أمتي فإذا صداه، وقد تهادى الفيلق

يمضي به ويقوده ذو همـّة للنصر فيه أو الممات تشوّق

يطوي اليهود كما طوتهم خيبر وطوى قريظةَ يوم خانوا الخندق

وكل ذلك كائن في ميعاد قريب ومكان موعود محدّد، يتمثلّ فيه استكبار إسرائيل، ونشرها الفساد والظلم والطغيان والعلوّ على من حولها، ولا بد أن تكون الراية حينئذ ترفع كلمة التوحيد وتدعو إلى الأخذ بتعاليمه:

والموعد "الأقصى" وراية أحمد ستجوز آفاق السماء وتَخفق

وهذا القائد ذو الهمة يحقّق الله على يديه النصر المبين، وتعنو وجوه الصهاينة لأمره وتخضع لحكمه فيهم، وهو متواضع بعيد عن التكبر، وبذلك ترتفع على مآذن الأقصى نداءات (الله أكبر) معلنة دخول المسلمين للمسجد كما دخلوه أول مرة:

ولسوف يعلو فوق منبره ضحى للناس فيه تشوّف وتعلُّق

والمسلمـون بكل أرض سُـجـّّد والله يحفظ أمرهم ويوفّـق

والفاتـح المنصـور بيـن جنوده بالنصر زاه، بالوقار مطوّق

عنتِ اليهود لأمره، وجبينه لله عـان مستكـين مطرق

وعلا على الأقصى الأذان مظفرًا فإذا العيون بدمعها تغرور

وتتراءى له القدس في كل ميدان، وفي كل مشهد يدل على القوة والفروسية، فها هو يرى في قصيدته (صباح مؤمن)فارسًا على صهوة جواده، فيشغله هذا المشهد من مشاهد القوة والفروسية، فيرى في هذا الفارسِ أحدَ قادة المسلمين الفاتحين، فينسى آلامه وأحزانه التي تلفه وتلف القدس والديار المحيطة بها، ويجري معه حوارًا عن هويته والآمال المعلقة عليه، فيقول:

أطرقت في أسف حزينًا مَوهنًا والليل يمضي مثل حالي مُوهَنا

والقدس أحزان تطول ثقيلة تغشى الديار وأهلها والأعينا

ولمحت في الظلماء صهوة فارس يعدو فيسبق نفسه حتى دنا

"من أنت؟" قلت: أخالد أم طارق؟ أم سعد أم عمرٌو؟ أجبني. إننا

نهفو لمثلك، نحن حولك أمة طالت مواجعها وطال بها العنا

والقدس ترقب مثل سيفك ظافرًا والناس، والتاريخ يرقب والدنا

ماذا؟ ومن؟ ومتى؟ وأين الملتقى؟ فأجاب: حيث المسلمون، وههنا

وشاعرنا يرى أن القدس يحررها بالسيف شهم مثل هذا الفارس، يتحدى الخطوب فيثخنها جراحًا، ويجعلها مثل خيبر، ويستأصل جذور الفساد فيها والاغتصاب والعدوان:

القـدس للشـهم الـذي يأتي لها وبها كما يأتي من الليـل السـنا

القدس للشهم الذي يأتي لها بطلًا يفـدّيـها بأنفس ما اقتـنى

قصدتْه غاشية الخطوب فردها مكلومة ترجو رضاه، وما انثنى

يزداد عزمًا كلما عصف الأذى فإذا تـحداه تحدى الممكنا

للقدس يوم مثل خـيبر ظافر يأتي به شـهم شـجاع ما انحنى

يا قدس، موعدنا صباح مؤمن يأتي به الأنجـاد نضرًا مـؤمنا

وهو دائمًا يرى أن هذا الفتح والتحرير لن يتما إلا بالقوة التي تقضي على الاحتلال، وتعمل لإعلاء كلمة الله، وبالإيمان الذي يصنع العجائب في نفوس حملته فيكونون جديرين بنصر الله تعالى لهم، بعد أن يكونوا قد نصروا دينه، وأعلوا كلمته، فهم قد أتوا بهذا الصباح المؤمن و:

صنعوه من نصر تـزيّن بالتّقى وتزيّـنوا للقائه وتزيّـنا

هم مؤمنون ومحسنون، فهل ترى نصرًا لهم إلا نبيلًا محسنًا؟

وهو هكذا دائمًا متفائل، لا تقنطه قوة عدو، ولا يوهنه ضعف حاكم مسلم، ولا تخاذل من يثبّط الهمم، فالمسلمون إلى خير وإلى نصر وإلى عودة إلى المجد، فيقول في قصيدته (رسل الزمان):

ما زلت رغم غوائل الظلمات والبغي، أُقسم إن صبحي آت

آت، وإن جار العداة وأسرفت أنياب هم في الأهل والحرمات

المسلمون هم الخلود وسل بهم مر الزمـان قديمـه والآتـي

المسلمـون كتيبـة أبديـّـة ميمـونـة الغدوات والروحات

وثـّابـة بعـد العثار عنيدة مـحمية مـن هلكة وشتـات

هم يضعفون عن المعالي مرة أو يهزمون لدى الوغى مرات

لكنهم....

يـتجـددون ويـولـدون أعـزة بين الصعاب وفي لظى الغمرات

ومن يقينه بتفاؤله يقسم الأيمان على طلوع فجر أمته:

فظللت أقسم أن صبحي قادم وجذاه زيت الحق في المشكاة

وفي قصيدته (إلى الثالث الميمون) التي تناهز مئة بيت يضع مقدمة نثرية يتحدث فيها عن "الذي سينقذ القدس من الاحتلال اليهودي"، ويكرر فيها اسم القدس ورموزها فلسطين والأقصى... ثلاث عشرة مرة، ويستعرض ما قدمه الفاتح الأول عمر، وما صنعه الفاتح الثاني صلاح الدين، ويبحث عن ثالثهما:

وثالثهم لم أبصر اليوم وجهه ولكنه بـدر السمـاء إذا تمّـا

من الثالث الميمون؟ اَلله وحده سيأتي به نعمى ويأتي به رغما

أناديه: أقدم، إن حولك أمـة رأتك الأب المقدام والخال والعمّا

فيا أمّتي تيهي، ويا مجد كن له سوارًا، ويا أعراس كوني له يومًا



ولا يقتصر تناول شاعرنا لقضية القدس على ما ورد في ديوانه هذا، فهو في قصائد ديوانه الأول (من يطفئ الشمس؟) أيضًا لا يغفل الحديث عن فلسطين، على رغم غلبة الإخوانيات والروحانيات على قصائد هذا الديوان، فهو في قصيدته (أين المفر؟) يتحدث عن انسحاب الصهاينة من غزة عام 2005 م، تحت ضربات المقاومة، وتخريبهم بيوتهم بأيديهم قبل أن تصل إليها أيدي المؤمنين، وبكاء شارون والصهاينة على انسحابهم، فبقول:

يا من بكى دمعة خرساء حمراء غدًا ستبكي دمًا صبحًا وإمساء

فأنت من جاء للأقصى فدنّـسه وأوسع النـاسَ تنكيلا وإيـذاء

وهو يبدي تفاؤله واستبشاره بالتحرير القادم عاجلًا بدءًا من غزة، التي تحررت، وقد جاءت الأحداث في بداية عام 2009 تؤكد أن قوة الجيش الصهيوني تحطمت على صخرة صمود المقاومة والشعب في غزة، فيقول:

في غزة بدأ التحرير رحلته مواكبـًا لا ترى فيهن إبطاء

حتى يحرر كل الأرض منطلقًا كالرعد محتدمًا، والبرق وضّاء

فأين تهرب منه؟ إنه قدر والله مـرسـله للبغي إفنــاء

فاحمل لقومك نعشًا، إنهم خُشُب ظلّـت مسنّـدة عجفاء جـوفاء

وكذلك يتحدث طويلًا عن القدس في قصيدته (صلاح الدين) من ديوانه الثالث الذي سيصدر قريبًا، وهل يمكن أن يجري الحديث عن صلاح الدين وبطولته من غير أن يتطرّق إلى تاريخ فلسطين والاحتلال الصليبي للقدس الذي استمر تسعين عامًا، ولبعض أجزاء من فلسطين مئتي عام؟ وهل يمكن أن يمر الحديث عن صلاح الدين من غير أن يُربط بتحريره للقدس من أيدي الصليبين الأملُ في تحريرها حديثًا من أيدي الصهاينة بنفس الطريقة (القتال)، وبنفس الروح والعقيدة (الإسلام)، وبنفس الإعداد والاستعداد؟!

وبعد أن يستعرض مجريات الأحداث في فترة الاحتلال الصليبي، ثم وصول الاستعمار البريطاني على يدي الجنرال أللنبي إلى القدس، يقول:

ومضت فترة وزدنا انتكاسًا فإذا باليهود ملء الساح

أخذوا القدس غدرة لا اقتدارًا في سعار من حقدهم لفّاح

ويلتفت إلى صلاح الدين يخاطبه:

سوف نقفـو خطاك مهما بذلنا واعتـدى ظالـم وخـذّل لاح

لنـعيد الأقصى العزيز عزيزًا وهو ضاح ونصرنا فيه ضاح

عـوّدتنـا رحابـه أن فيـها مصـرع المستبـد والسـفاح

ويعود إلى أمله وحلمه وتفاؤله:

في غد ينطـوي اليهود، ونبقى إن حـكم الأقــدار مـُـبـق ومـاح

وأخيرًا، إذا كان بعض أصحاب القرار وبعض حملة الأقلام يرون أن تحير القدس بعيد أو لا يتم إلا بالتفاوض أو التنازل، فإن شاعرنا الدكتور حيدر الغدير لا يرى غير القتل للمحتلين الصهاينة حلًا لتحرير القدس، فيقول من قصيدة وجهها لشارون:

أيها الراكضون في القدس تيهًا أنـتـم الـواهمون والأغـبياء

أيها المعتـدون، ما دام ظلـم يولد الظلـم وهـو داء عياء

فاحذروا إننا طلائـع زحـف جنده الأروعـون والأتقـياء

وارحلوا قبل موتكم أو فموتوا حيـث شئتـم فسيفـنا المحّاء









الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني

الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني
الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني


بقلم: صدقي البيك

إنه الأمير الفارس الشاعر الحارث بن سعيد، زين شباب بني حمدان، عاش في القرن الرابع الهجري، وقتل في عام 358هـ. خاض معارك مع البيزنطيين، ونال منهم وأسروه، وكان يتعالى عليهم وهو في الأسر، وكانت أمه رومية؛ ولذلك فهو يفتخر بانتمائه إلى الأخوين النبيين إسماعيل وإسحاق، أباً وأماً فيقول:

لإسماعيل بي وبنيه فخر وفي إسحق بي وبنيه عجبُ

وأعمامي ربيعة وهي صِيد وأخوالي بلصفر وهي غُلْبُ

ومع ذلك فإنه قد لاقى العنت من أعمامه، والأذى من أخواله:

إذا خفت من أخوالي الروم خطة تخوفت من أعمامي العرب أربعا

وإن أوجعتني من أعاديَّ شيمةٌ لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا

ومع كون أمه رومية فقد ربى على الشهامة العربية والمفاهيم الدينية التي ظهرت في شعره بكثرة متناثرة في قصائده؛ فهو يرجو من الله لا من سواه أن يحقق له آماله:

ولو قد رجوت الله لا شيء غيره رجعت إلى أعلى وأمّلت واسعا

وكل أمله معلق بعفو الله - تعالى - عنه، وسيجزى على عمله خيراً أو شراً:

فلا أمل غير عفو الإله ولا عمل غير ما قد مضى

فإن كان خيراً فخيراً تنل وإن كان شراً فشراً ترى

أفلا نجد في بيته الأخير معنى قول الله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]؟. فهكذا يكون تسليم المؤمن لربه، ويقينه بأن عاقبته تعتمد على ما قدم من خير أو شر، وكل ما يقضي به الله لا راد له، ولا يمتنع منه أحد:

ما للعبيد من الذي يقضي به الله امتناع



وهل لقضاء الله في الناس غالب؟ وهل من قضاء الله في الناس هارب؟

هم يطفئون المجد والله موقد وكم ينقضون الفضل والله واهب

كما أنه يسلم بإرادة الله التي ما تعاندها إرادة:

دع ما أريد وما تريد فإن لله الإرادة

الله يقضي ما يشاء وفي يد الله الزياده

وهو موقن أن سلامته كانت بحفظ الله له وحمايته له:

فكم شالني من قعر ظلماء لم يكن لينقذني من قعرها حشد حاشد

وإذا اعتمد الإنسان على غير الله لم يحفظه من العوادي شيء، بل جاءه الشر من حيث كان يتوقع الخير:

وبت يظن الناس فيَّ ظنونهم وثوبي مما يرجم الناس طاهرُ

فلما خلونا، يعلم الله وحده، لقد كرمت نجوى وعفَّت سرائرُ

عفافك غي، إنما عفة الفتى إذا عفَّ عن لذاته وهو قادرُ

إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد

إذا الله لم يحرزك مما تخافه فلا الدرع منّاع ولا السيف قاضب

أخلاقه:

وأما سلوكه وأخلاقه فهي الأخلاق الإسلامية التي يدعو إليها الدين ويحث عليها، فهو بعيد عن ظنون الناس السيئة، ويعلم أن الله مطلع عليه في خلوته، فلا يمكن أن يخالف أوامره ونواهيه:

والذي يردعه عن السوء هو تقواه وعفته وعقله، وهذه الأمور كأنها ضرائر للنساء القريبات منه:

ويا عفتي ما لي وما لك؟ كلما هممت بأمر همّ لي منك زاجرُ

كأن الحجا والصون والعقل والتقى لديّ لربات الخدور ضرائرُ

ولن يخرجه عن وقاره وتقواه كل ما يمكن أن يتعرض له من مواقف الصبوة والغزل:

أنا الذي إن صبا أو شفه غزل فللعفاف وللتقوى مآزره

وكما يحرص على تقواه وعفافه وأخلاقه يحرص أيضاً على احتشام أهله وطهارتهن، وتحلّيهن بالأخلاق الإسلامية؛ فهو لا ينسى أن يطلب من ابنته الحفاظ على هذه الأخلاق والالتزام بالحجاب الإسلامي، ولو كان على فراش الموت:

أبنيتي لا تجزعي كل الأنام إلى ذهاب

نوحي عليَّ بحسرة من خلف سترك والحجاب

وهو كذلك حريص على أن تكون أمه صابرة محتسبة طالبة للأجر من الله، وأن تتأسى بمن سبقها من المؤمنات الصابرات من أمثال أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) عندما قالت للحجاج وهي أمام ابنها عبدالله بن الزبير:"أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!" وصفية بنت عبدالمطلب عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصبرها على مقتل أخيها حمزة - رضي الله عنه - فيقول:

مصابي جليل والعزاء جميلُ وظني بأن الله سوف يديلُ

فيا أمتا لا تعدمي الصبر إنه إلى الخير والنجح القريب رسولُ

ويا أمتا لا تخطئي الأجر إنه على قَدَر الصبر الجميل جزيلُ

أما لك في ذات النطاقين أسوة فقد غال هذا الناس بعدك غولُ

وكوني كما كانت بأحْد صفية ولم يُشفَ منها بالبكاء غليلُ

وهذه القصيدة زاخرة بالمعاني الإسلامية السامية من إرادة الله الغالبة، وعونه وحمايته ونصره وإرشاده:

ومن لم يوقّ الله فهو ممزق ومن لم يعزّ الله فهو ذليلُ

وما لم يرده الله في الأمر كله فليس لمخلوق إليه سبيلُ

ومثل ذلك قوله:

إذا لم يعنك الله فيما ترومه فليس لمخلوق إليه سبيلُ

وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصراً وإن عز أنصار وجل قبيلُ

وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ضللت ولو أن السماك دليلُ

مناجاة:

وهو يناجي ربه في ظلمات سجنه الذي طال فيه أسره؛ فكم ناجى حمامة وتجلد أمامها وامتنعت عيناه من ذرف الدمع الذي لا يليق بالفرسان أمثاله، وكم شفه الوجد والألم في عتمة الليل وفي جر القيود، ولكنه كان يبدو ضعيفاً في مناجاته لربه - عز وجل- وطلبه منه أن يفرج كربه، ويكشف عنه الخطب، فيقول:

يا فارج الكرب العظيم وكاشف الخطب الجليل

كن يا قوي لذا الضعيف ويا عزيز لذا الذليل

أوَ ما كشفت عن ابن داودٍ ثقيلات الكبول؟



فهو في أسره هذا متذلل أمام ربه، ولكنه كما هو معروف عنه كان متعالياً على سجانيه يكاد يقاتلهم بشعره. فيقول في قصيدة أخرى مخاطباً الدمستق:

أتزعم يا ضخم اللغادين أننا ونحن أسود الحرب لا نعرف الحربا؟

فويلك! من للحرب إن لم نكن لها؟ ومن ذا الذي يمسي ويضحي لها تربا؟

وويلك من أردى أخاك بمرعش وجلل ضرباً وجه والدك العضبا؟

لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه فكنا بها أسداً وكنت بها كلباً

بأقلامنا أحجرت أم بسيوفنا؟ وأسد الشرى سقنا إليك أم الكتبا؟

ولكنه عندما يخاطب أحبابه يفوِّض أمره إلى الله، ويسلم بقضائه وقدره، فيقول:

لولا العجوز بمنبج ما خفت أسباب المنيهْ

لكن قضاء الله في الأحكام تنفذ في البريهْ



ويثني على ما فيه أمه من التقى والدين، ويصبِّرها ويقوِّي ثقتها بفضل الله عليه:

فيها التقى والدين مجــموعان في نفس زكيهْ

يا أمتا لا تحزني وثقي بفضل الله فيَّهْ

يا أمتا لا تيأسي لله ألطاف خفيهْ

ولكن الذي يلفت النظر في شعر أبي فراس هو التوجه الشيعي الإثني عشري!

فقدبدا ذلك واضحاً في قصيدتين له: أولاهما، وهي قصيدة طويلة من 57 بيتاً مطلعها:

الدين مخترم والحق مهتضم     وفيءُ رسول الله مقتسم

وينتدب ا لرجال للانتصاف من الطغاة:

يا للرجال! أما لله منتصف      من الطغاة؟ أما لله منتقمُ
   
      وذلك دفاعاً عن آل علي ( بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه) وحقهم بالخلافة  التي صرفت إلى غير صاحبها وتنازعها الذئاب والرخمك

بنو عليّ رعايا في ديارهم       والأمر تملكه النسوان والخدم
.....
قام النبي بها يوم الغدير له          والله يشهد والأملاك والأُممُ

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها  باتتت تنزعُها الذؤبان والرخم

وصُيِّرت بينهم شورى كأنهم       لا يعرفون ولاة الحق أيّهمُ
    
         ثم يندد بالعباسيين ويفاخرهم بآل على وينشر غدراتهم ومنقصاتهم:

لا يطغينَّ بني العباس مُلكهمُ       بنو عليّ مواليهم وإن زعموا

أتفخرون عليهم، لا أبا لكمُ        حتى كأن رسول الله جدُّكم؟

هلاّ صفحتم عن الأسرى بلا سبب  للصافحين ببدر عن أسيركم؟

كم غدرة لكمُ في الدين واضحة!    وكم دم لرسول الله عندكم!
   
          ويختمها بتعداد مناقب آل علي ، ومنها:

الركن والبيت والأستار منزلهم     وزمزم والصفا والحجر والحرم

صلى الإله عليهم أينما ذكروا      لأنهم للورى كهف ومعتصم

          والقصيدة الثانية من سبعة أبيات فقط ولكنها تركز في ولائه للأئـمة الاثني عشر الذين يرجو بهم النجاة مما يخافه في الدنيا، وبلوغ الأماني في الآخرة، فيقول جاعلاً قافيته متكررة بلفظ عليّ، مبرزاً مدى تعلـّقه بالعلوية:

لست أرجو النجاة من كل ما أخـــــــــشاه إلا بأحمدٍ وعليّ

وببنت الرسول فاطمة الطهــــــــــــــر وسبطيه والإمام عليّ 

والتقي النقي باقر علم الــــــــــــــــله فينا محمد بن علي

وابنه جعفرٍ وموسى ومولا.........نا عليٍّ أكرمْ به من عليّ

وأبي جعفرٍ سمِيِّ رسول الـــــــــــله ثم ابنه الزكي علي

وابنه العسكريّ والقائم المُظـْـــــهرِ حقّي محمد بن عليّ

بهمُ أرتجي بلوغ الأماني         يومَ عَرضي على الإله العليّ
    
         فإلى هذا الحد  يصل  تمسك هذا الشاعر بالروح الطائفية التي تحصر الإسلام في النطاق الضيق، والساخطة على من سواهم، مع العلم أن أسرته  بني حمدان التغلبية كانت تحكم بلاد الشام وشمال العراق وينافسهم على السلطان في سائر العراق بنو بويه الفرس المتشيعون، وإلى الجنوب من العراق كان القرامطة الشيعة الإسماعليون يحكمون شرق الجزيرة العربية، واالعبيديون الإسماعليون أيضاً يحكمون شمال إفريقا!