الأحد، 24 فبراير 2013

الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني

الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني
الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني


بقلم: صدقي البيك

إنه الأمير الفارس الشاعر الحارث بن سعيد، زين شباب بني حمدان، عاش في القرن الرابع الهجري، وقتل في عام 358هـ. خاض معارك مع البيزنطيين، ونال منهم وأسروه، وكان يتعالى عليهم وهو في الأسر، وكانت أمه رومية؛ ولذلك فهو يفتخر بانتمائه إلى الأخوين النبيين إسماعيل وإسحاق، أباً وأماً فيقول:

لإسماعيل بي وبنيه فخر وفي إسحق بي وبنيه عجبُ

وأعمامي ربيعة وهي صِيد وأخوالي بلصفر وهي غُلْبُ

ومع ذلك فإنه قد لاقى العنت من أعمامه، والأذى من أخواله:

إذا خفت من أخوالي الروم خطة تخوفت من أعمامي العرب أربعا

وإن أوجعتني من أعاديَّ شيمةٌ لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا

ومع كون أمه رومية فقد ربى على الشهامة العربية والمفاهيم الدينية التي ظهرت في شعره بكثرة متناثرة في قصائده؛ فهو يرجو من الله لا من سواه أن يحقق له آماله:

ولو قد رجوت الله لا شيء غيره رجعت إلى أعلى وأمّلت واسعا

وكل أمله معلق بعفو الله - تعالى - عنه، وسيجزى على عمله خيراً أو شراً:

فلا أمل غير عفو الإله ولا عمل غير ما قد مضى

فإن كان خيراً فخيراً تنل وإن كان شراً فشراً ترى

أفلا نجد في بيته الأخير معنى قول الله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]؟. فهكذا يكون تسليم المؤمن لربه، ويقينه بأن عاقبته تعتمد على ما قدم من خير أو شر، وكل ما يقضي به الله لا راد له، ولا يمتنع منه أحد:

ما للعبيد من الذي يقضي به الله امتناع



وهل لقضاء الله في الناس غالب؟ وهل من قضاء الله في الناس هارب؟

هم يطفئون المجد والله موقد وكم ينقضون الفضل والله واهب

كما أنه يسلم بإرادة الله التي ما تعاندها إرادة:

دع ما أريد وما تريد فإن لله الإرادة

الله يقضي ما يشاء وفي يد الله الزياده

وهو موقن أن سلامته كانت بحفظ الله له وحمايته له:

فكم شالني من قعر ظلماء لم يكن لينقذني من قعرها حشد حاشد

وإذا اعتمد الإنسان على غير الله لم يحفظه من العوادي شيء، بل جاءه الشر من حيث كان يتوقع الخير:

وبت يظن الناس فيَّ ظنونهم وثوبي مما يرجم الناس طاهرُ

فلما خلونا، يعلم الله وحده، لقد كرمت نجوى وعفَّت سرائرُ

عفافك غي، إنما عفة الفتى إذا عفَّ عن لذاته وهو قادرُ

إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد

إذا الله لم يحرزك مما تخافه فلا الدرع منّاع ولا السيف قاضب

أخلاقه:

وأما سلوكه وأخلاقه فهي الأخلاق الإسلامية التي يدعو إليها الدين ويحث عليها، فهو بعيد عن ظنون الناس السيئة، ويعلم أن الله مطلع عليه في خلوته، فلا يمكن أن يخالف أوامره ونواهيه:

والذي يردعه عن السوء هو تقواه وعفته وعقله، وهذه الأمور كأنها ضرائر للنساء القريبات منه:

ويا عفتي ما لي وما لك؟ كلما هممت بأمر همّ لي منك زاجرُ

كأن الحجا والصون والعقل والتقى لديّ لربات الخدور ضرائرُ

ولن يخرجه عن وقاره وتقواه كل ما يمكن أن يتعرض له من مواقف الصبوة والغزل:

أنا الذي إن صبا أو شفه غزل فللعفاف وللتقوى مآزره

وكما يحرص على تقواه وعفافه وأخلاقه يحرص أيضاً على احتشام أهله وطهارتهن، وتحلّيهن بالأخلاق الإسلامية؛ فهو لا ينسى أن يطلب من ابنته الحفاظ على هذه الأخلاق والالتزام بالحجاب الإسلامي، ولو كان على فراش الموت:

أبنيتي لا تجزعي كل الأنام إلى ذهاب

نوحي عليَّ بحسرة من خلف سترك والحجاب

وهو كذلك حريص على أن تكون أمه صابرة محتسبة طالبة للأجر من الله، وأن تتأسى بمن سبقها من المؤمنات الصابرات من أمثال أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) عندما قالت للحجاج وهي أمام ابنها عبدالله بن الزبير:"أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!" وصفية بنت عبدالمطلب عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصبرها على مقتل أخيها حمزة - رضي الله عنه - فيقول:

مصابي جليل والعزاء جميلُ وظني بأن الله سوف يديلُ

فيا أمتا لا تعدمي الصبر إنه إلى الخير والنجح القريب رسولُ

ويا أمتا لا تخطئي الأجر إنه على قَدَر الصبر الجميل جزيلُ

أما لك في ذات النطاقين أسوة فقد غال هذا الناس بعدك غولُ

وكوني كما كانت بأحْد صفية ولم يُشفَ منها بالبكاء غليلُ

وهذه القصيدة زاخرة بالمعاني الإسلامية السامية من إرادة الله الغالبة، وعونه وحمايته ونصره وإرشاده:

ومن لم يوقّ الله فهو ممزق ومن لم يعزّ الله فهو ذليلُ

وما لم يرده الله في الأمر كله فليس لمخلوق إليه سبيلُ

ومثل ذلك قوله:

إذا لم يعنك الله فيما ترومه فليس لمخلوق إليه سبيلُ

وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصراً وإن عز أنصار وجل قبيلُ

وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ضللت ولو أن السماك دليلُ

مناجاة:

وهو يناجي ربه في ظلمات سجنه الذي طال فيه أسره؛ فكم ناجى حمامة وتجلد أمامها وامتنعت عيناه من ذرف الدمع الذي لا يليق بالفرسان أمثاله، وكم شفه الوجد والألم في عتمة الليل وفي جر القيود، ولكنه كان يبدو ضعيفاً في مناجاته لربه - عز وجل- وطلبه منه أن يفرج كربه، ويكشف عنه الخطب، فيقول:

يا فارج الكرب العظيم وكاشف الخطب الجليل

كن يا قوي لذا الضعيف ويا عزيز لذا الذليل

أوَ ما كشفت عن ابن داودٍ ثقيلات الكبول؟



فهو في أسره هذا متذلل أمام ربه، ولكنه كما هو معروف عنه كان متعالياً على سجانيه يكاد يقاتلهم بشعره. فيقول في قصيدة أخرى مخاطباً الدمستق:

أتزعم يا ضخم اللغادين أننا ونحن أسود الحرب لا نعرف الحربا؟

فويلك! من للحرب إن لم نكن لها؟ ومن ذا الذي يمسي ويضحي لها تربا؟

وويلك من أردى أخاك بمرعش وجلل ضرباً وجه والدك العضبا؟

لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه فكنا بها أسداً وكنت بها كلباً

بأقلامنا أحجرت أم بسيوفنا؟ وأسد الشرى سقنا إليك أم الكتبا؟

ولكنه عندما يخاطب أحبابه يفوِّض أمره إلى الله، ويسلم بقضائه وقدره، فيقول:

لولا العجوز بمنبج ما خفت أسباب المنيهْ

لكن قضاء الله في الأحكام تنفذ في البريهْ



ويثني على ما فيه أمه من التقى والدين، ويصبِّرها ويقوِّي ثقتها بفضل الله عليه:

فيها التقى والدين مجــموعان في نفس زكيهْ

يا أمتا لا تحزني وثقي بفضل الله فيَّهْ

يا أمتا لا تيأسي لله ألطاف خفيهْ

ولكن الذي يلفت النظر في شعر أبي فراس هو التوجه الشيعي الإثني عشري!

فقدبدا ذلك واضحاً في قصيدتين له: أولاهما، وهي قصيدة طويلة من 57 بيتاً مطلعها:

الدين مخترم والحق مهتضم     وفيءُ رسول الله مقتسم

وينتدب ا لرجال للانتصاف من الطغاة:

يا للرجال! أما لله منتصف      من الطغاة؟ أما لله منتقمُ
   
      وذلك دفاعاً عن آل علي ( بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه) وحقهم بالخلافة  التي صرفت إلى غير صاحبها وتنازعها الذئاب والرخمك

بنو عليّ رعايا في ديارهم       والأمر تملكه النسوان والخدم
.....
قام النبي بها يوم الغدير له          والله يشهد والأملاك والأُممُ

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها  باتتت تنزعُها الذؤبان والرخم

وصُيِّرت بينهم شورى كأنهم       لا يعرفون ولاة الحق أيّهمُ
    
         ثم يندد بالعباسيين ويفاخرهم بآل على وينشر غدراتهم ومنقصاتهم:

لا يطغينَّ بني العباس مُلكهمُ       بنو عليّ مواليهم وإن زعموا

أتفخرون عليهم، لا أبا لكمُ        حتى كأن رسول الله جدُّكم؟

هلاّ صفحتم عن الأسرى بلا سبب  للصافحين ببدر عن أسيركم؟

كم غدرة لكمُ في الدين واضحة!    وكم دم لرسول الله عندكم!
   
          ويختمها بتعداد مناقب آل علي ، ومنها:

الركن والبيت والأستار منزلهم     وزمزم والصفا والحجر والحرم

صلى الإله عليهم أينما ذكروا      لأنهم للورى كهف ومعتصم

          والقصيدة الثانية من سبعة أبيات فقط ولكنها تركز في ولائه للأئـمة الاثني عشر الذين يرجو بهم النجاة مما يخافه في الدنيا، وبلوغ الأماني في الآخرة، فيقول جاعلاً قافيته متكررة بلفظ عليّ، مبرزاً مدى تعلـّقه بالعلوية:

لست أرجو النجاة من كل ما أخـــــــــشاه إلا بأحمدٍ وعليّ

وببنت الرسول فاطمة الطهــــــــــــــر وسبطيه والإمام عليّ 

والتقي النقي باقر علم الــــــــــــــــله فينا محمد بن علي

وابنه جعفرٍ وموسى ومولا.........نا عليٍّ أكرمْ به من عليّ

وأبي جعفرٍ سمِيِّ رسول الـــــــــــله ثم ابنه الزكي علي

وابنه العسكريّ والقائم المُظـْـــــهرِ حقّي محمد بن عليّ

بهمُ أرتجي بلوغ الأماني         يومَ عَرضي على الإله العليّ
    
         فإلى هذا الحد  يصل  تمسك هذا الشاعر بالروح الطائفية التي تحصر الإسلام في النطاق الضيق، والساخطة على من سواهم، مع العلم أن أسرته  بني حمدان التغلبية كانت تحكم بلاد الشام وشمال العراق وينافسهم على السلطان في سائر العراق بنو بويه الفرس المتشيعون، وإلى الجنوب من العراق كان القرامطة الشيعة الإسماعليون يحكمون شرق الجزيرة العربية، واالعبيديون الإسماعليون أيضاً يحكمون شمال إفريقا!








ليست هناك تعليقات: