الأربعاء، 1 فبراير 2012

نساء تحدث عنهن القرآن 4

ممهدات لعيسى - عليه السلام

وإذا كان حول موسى - عليه السلام - عددٌ من النسوةِ اللاتي حضنه ورعينه وســِرْن معه، فإنَّ عيسى - عليه السلام - وهو آخر أنبياء بني إسرائيل قد سبقَهُ عددٌ من النِّسوةِ المؤمنات تحدَّث عنهنَّ القرآن، وكل شأنهنَّ الذي أبرزه الله - تعالى - يتمثلُ في التمهيدِ لمعجزة عيسى - عليه السَّلام - تلك المعجزة المرتبطة بولادتِه، وكانت السماتُ البارزة في حياتهنَّ تدورُ حول الولادة!

7- وأولهنَّ جدته لأمِّه امرأة عمران، واسمها: (حنة)، وكانت لا تحملُ، واشتهت أن يكونَ لها ولدٌ، فدعت الله وحملتْ متأخرة، فنذرتْ ما في بطنِها لله، خالصًا لخدمة بيت المقدس، وكانت تتوقعُ أن يكونَ المولودُ ذكرًا، ولذلك نذرته، إلا أنَّها عندما وضعتْ وضعتْ أنثى، وسمتْها: (مريم)، ولكنَّها كانت قد نذرت ما في بطنِها ولم تحدِّد غير ذلك، فلزمها أن تقدِّمَ مولودتَها للمعبد، وهي تعلمُ أنَّ الذَّكرَ أجل وأقدر على خدمةِ المعبد من المرأة، ولكن لا مناصَ من تقديمها للمعبد، ومن قبل أن يقوى عودُها ويشتدَّ ساعدُها، كانت بحاجةٍ إلى من يكفلُها من الصَّالحين المشرفين على إدارةِ شؤون المعبد، ودعت لها وأعاذتها باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، كما أعاذت باللهِ ذريتَها، وكأنها تستشفُّ المستقبل، واستجاب الله لها، فتقبَّلَ مولودتَها وأنبتها نباتًا حسنًا، وجعل كفالتَها لزوجِ خالتها زكريا - عليه السلام - بعد أن اقترعَ مع بقيةِ المشتركين في حجابة البيت؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم حرص على كفالتِها وألقوا أقلامَهم في النهر، وصاحب القلم السابق يكون كفيلها، وكان ذلك من نصيبِ زكريا - عليه السَّلام - وعاشت في المحرابِ - غرفة في جدارِ المعبد تُتخذ للعبادة - وعندما شبَّتْ كان زكريا كلما دخَلَ عليها في هذا المحرابِ وجد عندها رزقًا - طعامًا من الفاكهةِ في غير أوانه – فيسألها: من أين لك هذا الطعام؟ فتجيبه: هو من عند الله، كرامة من عندِ الله لهذه الفتاة التي خاطبتها الملائكةُ مبشرةً لها باصطفاءِ الله لها وتطهيرها واصطفائها على نساءِ العالمين.

هذه المرأة الطاهرة المصطفاة هي مريم أمُّ عيسى - عليه السلام - ذرية بعضُها من بعض، ويكفيها فخرًا أنها المرأةُ الوحيدة التي ذكر اسمها صريحًا في القرآن الكريم، ولعلَّ في هذا اصطفاء لها أيضًا.

8- وكان لولادةِ (حنة) امرأة عمران لابنتِها مريم، مع تأخُّرِها في الحمل، ولِمَا رآه زكريا عليه السلام من إكرامِ الله تعالى لمريم في المحراب - أثرٌ على قلبِه المفعم بالإيمان والثقة بالله، وعدم اليأس، فالله قادرٌ على أن يرزقَه الولدَ على رغم يقينِه بأنَّ امرأته - أخت امرأة عمران - عاقر، وعلى رغمِ تقدمِه في السن، فقد وهن عظمُه واشتعل الشيبُ في رأسِه، ولذلك توجَّهَ إلى الله بالدُّعاءِ أن يرزقَه الله ذريةً طيبة، ولدًا تقرُّ به عينه ويرث علمَه وعلم آل يعقوب، وسأل الله أن يكونَ هذا الولدُ رضيًّا، وهكذا استجاب الله لدعاءِ هذا النبي فحملت زوجُه العاقر، وكانت البشرى من الله لزكريا بغلامٍِ وسماه الله تعالى: (يحيى)، وجعله سيدًا وحصورًا ونبيًّا، هذا عطاءُ الله، وهكذا كانت كرامةُ هذه المرأة مرتبطةً بالولادةِ في سنٍّ غير مألوف فيها إنجاب المرأة.

9- والمرأة الثالثة هي مريم ابنة عمران، تلك التي كانت ولادة أمِّها لها كرامة، وحياتها في المحرابِ كرامة، وولادتها لابنها عيسى معجزة في حقِّ عيسى - عليه السلام.

فتاةٌ غير متزوجة تقيَّة نقية، تخرجُ من المعبد الذي نُذرت لخدمتِه متجهة إلى الشرقِ منه، وتحتجب عن أهلِها، فيتمثل لها الملكُ بشرًا سويًّا، فترتعب منه وتستعيذ بالله منه، فإذا هو يعلمُها أنه رسولُ الله إليها ليهب لها غلامًا زكيًّا، وكيف يكون لها غلامٌ وهي لم تتزوج ولم يمسها بشر؟! ولكنها قدرةُ الله وإرادته، فما أهون هذا الأمر! وكان حملها أمرًا مقضيًّا في الحال، وتمتد بها أيامُ الحمل حتى ثقل عليها، فخرجت إلى مكانٍ قصي عن المعبد، وحانت ساعةُ المخاض فألجأها إلى جذعِ النخلة تتكئ عليه، ويعتصر قلبُها أمران: آلام المخاض، والتفكير في موقفها أمام قومِها بعد ولادتِها، فتمنت أن تكونَ قد ماتت قبل هذه الحالة ونسيها الناس، وجاءها المددُ والغوث من عالم الغيب وواقع المعجزات، فتسمع كلامًا من هذا الوليدِ أو من الملك يربطُ على قلبِها ويهدئ روعها: لا تحزني، فتحتك نهر يزيلُ عنكِ أوضارَ الولادة، وفوقك طعامُ رُطَبٍ جني يتساقطُ عليك إذا هززتِ جذعَ النخلة! ويعلمها كيف تواجه قومَها في هذا الموقفِ العصيب، بلا كلام، إشارة باليدِ إلى المولود وكفى، وهو يتولَّى الدفاعَ عنها، مولود في أيامه الأولى يدافعُ عن أمِّه بلسانه! بكلامه! معجزة تلي معجزة، معجزة ولادته من غيرِ أب، ومعجزة كلامِه في المهد! ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ [مريم : 30]، كلامٌ حازم يسمعونه بآذانهم يبرئ أمَّه، ويعلمهم بعبوديتِه لله، وجعله نبيًّا يتنزل عليه كتابُ الله، هل اقتنعَ بنو إسرائيل بكلِّ هذه الدلائل، وهذه المعجزات؟

إنَّ القلوبَ القاسية تستعصي على الإيمانِ والتصديق، فاتهموا مريمَ التي رافقت ولدَها في أيامِ حياته العادية متنقلةً به من مكانٍ إلى مكان خوفًا من الحكامِ الظلمة، وخوفًا من الكهنةِ الذين يأكلون الدنيا بالدين، وينكرون معجزاتِ ربِّ العالمين، ولا يصدقون بزكريا ويحيى وعيسى، وهكذا أحاطت بحياةِ عيسى - عليه السلام - هذه الكوكبةُ من النِّساءِ اللاتي كانت كراماتُهنَّ مرتبطةً بطبيعة معجزة عيسى الكبرى؛ الولادة غير المعتادة، ولادة بعد عقم، ولادة بعد كبر، وولادة من غير أب! فسبحان الله الذي يؤيد رسله بالمعجزات!

ليست هناك تعليقات: