الأربعاء، 24 أبريل 2013

الصهيونية أوجدت إسرائيل!!


الصهيونية أوجدت إسرائيل!!

إن معركتنا مع إسرائيل واليهودية الصهيونية موغلة في القدم ولكنها حديثًا بدأت قبل أكثر من قرن، تأخذ بعدًا عمليًّا واضحًا.
 وعدونا قوي ماديًا، وعنده قوى كبيرة تدعمه عسكريًّا وماليًّا، وبشريًّا وسياسيًّا، وستمتد معركتنا معه إلى أجيال، ولذلك فنحن بحاجة إلى أن نعرفه بدقة، وهذه المعرفة عامل من عوامل الانتصار عليه.
ومن هذا المنطلق علينا أن نعرف ما يحركه وما يدفعه إلى العدوان علينا، وما الأسس التي قام عليها تكوينه وأقام عليها دولته؟
مصطلحات متقاربة:
إن أمامنا ثلاثة مصطلحات متقاربة متداخلة، لا بد من التفريق الدقيق بينها، وهذه المصطلحات هي "الصهيونية واليهودية والإسرائيلية". ومع اختلاف هذه المصطلحات فلا مانع من استعمال أحدها مكان الآخر للتقارب بينها، ولغلبة ما يدل عليه كل منها على معظم ما يدل عليه الآخر. فاليهود الذين ليسوا صهيونيين قليلون.
 الصهيونية:
إن الصهيونية تمثل العدوان على العرب والمسلمين، وهي عدو محارب، إنها حركة عنصرية تنطلق من عقيدة اليهود بأن المسيح المخلص (وهو غير المسيح عيسى عليه السلام، هو المسيح الدجال في المفهوم الإسلامي) سيأتي في آخر الأيام ليعود بشعبه إلى أرض الميعاد ويحكم العالم من جبل صهيون. وأول من استعمل مصطلح الصهيونية حديثًا هو الكاتب اليهودي الألماني ناثان برونباوم عام 1890م.
 المؤثرات في تكوين الفكر الصهيوني:
1- صهيونية غير اليهود: كان السياسيون النصارى قد بدؤوا من القرن السابع عشر يفكرون بإيجاد كيان لليهود في فلسطين (أو في غيرها).
 2- عنصرية الفكر الغربي في القرن التاسع عشر: عندما تضخم المفهوم القومي العنصري لدى كل شعب من شعوب أوروبا، تحرك العنصريون اليهود الذين يرون في اليهود وحدة قومية يجمعها دين واحد وعرق واحد.
 3- إحساس هؤلاء الصهاينة بحاجتهم إلى "مشروع استعماري غربي يساعدهم على تحقيق مشروعهم القومي"، ولذلك كانوا يعتمدون على الحكومة الألمانية حينًا والروسية حينًا آخر لإقناع السلطان العثماني بالسماح لهم في الاستيطان في فلسطين.
 وقد نجحت الصهيونية فعلًا بالحصول على وعد بلفور.
 4- العقيدة اليهودية وما في التوراة من تعال على الشعوب الأخرى "شعب الله المختار"!! وما فيها من نبوءات عن مجيء المسيح وإقامته كيانًا ودولة لليهود في آخر الزمان، وما في التلمود من ادعاءات وتفسيرات.
 ولعل هذا المؤثر هو الأول من حيث تأثيره وكونه مستقرًا في أعماق كل يهودي مع اختلافهم في التأويل والتفسير، فهم جميعًا يؤمنون بالهالاخاة (الشريعة اليهودية) التي تتخذ صياغتها الشكل التالي (النفي - والانتظار وعودة الماشياح وعودة المنفيين) أي أن ينتظر اليهود بعد نفيهم إلى أن يأتي الماشياح ويعود المنفيون، ولكن الفكر الصهيوني قام بتعديل في هذه السلسلة فقدم عودة المنفيين فأصبحت على الشكل التالي (النفي - والعودة للإعداد لعودة الماشياح - والانتظار وعودة الماشياح). ولعل هذا الاختلاف في الترتيب هو الفارق الأساسي بين الصهيونيين وبين اليهود غير الصهيونيين، ومن هؤلاء حركة ناطوري كارتا التي ترى أن قيام دولة إسرائيل مخالف لإرادة الرب.
 زعماء الصهاينة:
1- ليوبنسكر 1821 - 1891: وهو طبيب يهودي روسي، ومعه ليلينبلوم الكاتب الروسي 1864 - 1910م وهما يعتمدان في دعوتهما للصهيونية على فكرة الشعب العضوي المنبوذ.
 2- تيودور هرتزل (1860 - 1905م): وهو صحفي يهودي مجري، وألف كتاب "الدولة اليهودية". وقال: إن الحل الجذري للاضطهاد اليهودي يكمن في إقامة دولة مستقلة لليهود".
 وقد قال هرتزل تعليقًا على مؤتمر بال 1897م "لو طلب إلي تلخيص أعمال مؤتمر فإني أقول بل أنادي على مسمع من الجميع: إنني قد أسست الدولة اليهودية" الموسوعة الميسرة.
 وقد حضر هذا المؤتمر مندوبًا عن جمعية أحباء صهيون، وفيهم أدباء ومهنيون وطلبة ورجال أعمال وأثرياء، وحاخامات، وانتخب هرتزل رئيسًا للمؤتمر وللمنظمة الصهيونية العالمية، ولجنة تنفيذية من 15 عضوًا ولجنة مصغرة من خمسة أعضاء.
 وأوصى المؤتمر بعدة وسائل لتحقيق "إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام".
 ومنها اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الحكومات باعتبار أن ذلك ضروري لتحقيق الهدف الصهيوني.
 وقد قام هرتزل بمساع حثيثة لتنفيذ هذه الوسائل، فسعى جاهدًا وبوساطات عديدة لمقابلة السلطان عبدالحميد، بلغت ست محاولات حتى عام 1904م، وباءت كلها بالإخفاق، وإن تمكن في بعضها من مقابلة السلطان بصفته صحفيًا، مع عروض مغرية، ولكن السلطان رفض هذه المحاولات والمغريات.
وهذا المؤتمر الصهيوني الذي عقد لأول مرة في بال، صار يعقد كل سنة، أو كل بضع سنوات في مدن أوروبية متعددة، وعقد المؤتمر التاسع والعشرون عام 1978م.
 3- حاييم وايزمن: بدأ نجمه يلمع بعد وفاة هرتزل وزاد دوره عندما توجه اليهود نحو إنكلترا التي كان نجمها في صعود، وقد لها حاييم وايزمن خدمات عسكرية في أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي اختراعه لمادة الأسيتون، فتمكن اليهود من الحصول على وعد بلفور.
 4- ومما يجدر ذكره أن من دوافع هذا الوعد صهيونية كثير من الساسة الأوروبيين وعقائدهم الدينية، فوايزمن يقول في مذكراته "لم يخطر على بال بعضهم أن رجالًا أمثال بلفور وتشرشل ولويد جورج كانوا متدينين في أعماق قلوبهم ومؤمنين بالتوراة وبأن عودة اليهود إلى فلسطين مسألة واقعية حقيقية؛ ولذلك فإنهم جعلوا ينظرون إلينا نحن الصهيونيين ممثلين لفكرة يحترمونها احترامًا عظيمًا".
 نجاحات الحركة الصهيونية:
سجلت هذه الحركة في عهد هرتزل القصير نجاحات منها؛ وضع اللبنة الأولى في إقامة الدولة اليهودية، وإنشاء المنظمة الصهيونية العالمية التي تنفذ برنامج الصهيونية في "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام"، وتأسيس "الصندوق القومي اليهودي" عام 1901م بهدف توفير الأموال "لاستملاك الأراضي في فلسطين لتكون ملكًا للشعب اليهودي لا يمكن التفريط به".
 وبعد وفاة هرتزل تمكنت الصهيونية من زعزعة الدولة العثمانية وإطاحة السلطان عبدالحميد عام 1909م، وفي عهد وايزمن نجحت الحركة في الحصول على وعد بلفور، وفي جعل أول مندوب سام بريطاني في فلسطين صهيونيًا هو "هربرت صموئيل" في تموز 1920م، وفتح فلسطين لأفواج المهاجرين اليهود، ومنح اليهود مساحات واسعة من أملاك الدولة، كما أنشأت الصهيونية "الوكالة اليهودية" في فلسطين عام 1922م تنفيذًا لصك الانتداب البريطاني ومهماتها تطوير حجم الهجرة اليهودية، وشراء الأراضي في فلسطين.
 وأبرز نجاحات الحركة الصهيونية استصدار قرار تقسم فلسطين من الأمم المتحدة في 29/11/1947م وهو القرار الذي أعطى اليهود 56% من أرض فلسطين مع أنهم لا يملكون منها إلا 5% وعددهم 600 ألف، بينما أعطى العرب 43% من فلسطين وهم يزيدون على مليون ثلاثمائة ألف!!
 وكانت قمة هذه النجاحات قيام دولة إسرائيل عام 1948م، واستولت على نصف المساحة التي خصصها التقسيم للعرب، زيادة على حصتها، وطردت تسعمائة ألف فلسطيني من ديارهم، وفي عام 1967م أكملت احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة واحتلت شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان.
 مطامع الصهيونية التوسعية:
منذ قامت الحركة الصهيونية كانت ولا زالت تهدف إلى إنشاء (إسرائيل الكبرى) التي تمتد من الفرات إلى النيل بل إلى الفرع الغربي من نهر النيل، وإذا كانت قد استولت على كامل فلسطين، فإنها تسعى عندما تواتيها الظروف، لبناء الهيكل مكان الأقصى، وقد جهزوا حجر الأساس، وهذا من أهم شعاراتهم، فقد قال بن غوريون "لا قيمة لإسرائيل من غير القدس، ولا قيمة للقدس من غير الهيكل".
 هذه هي الصهيونية وهناك بعض الجمعيات والنوادي التي تتخفى وراءها، وقد استطاعت هذه الحركة التي بدأت بكتاب عن الدولة اليهودية، أن تقيم هذه الدولة بعد خمسين سنة، وإذا كانت الأمم المتحدة قد قررت بقرار تقسيم فلسطين، فإن الصهاينة هم الذين نفذوا وطبقوا بالقوة هذا القرار. وإذا تمكنا نحن من تطبيق وتنفيذ أي قرار يصدر لصالحنا بالقوة فلن تعرقل الأمم المتحدة عملنا، ولا ينفعنا أن نستجدي الأمم المتحدة أو الدول العظمى تنفيذ هذه القرارات، مهما كان الحق معنا والعالم معنا.
 وإلى أن نصبح قادرين على ذلك وعازمين عليه، فإننا منتظرون.




الخميس، 18 أبريل 2013

كتاب الحيدة



كتاب "الحيدة" أبرز كتب المناظرات في العصر العباسي

تميز العصر العباسي بالصراع الفكري الذي نشب في أوساط الفرق الإسلامية المختلفة، وبين العلماء متعددي المشارب والأفكار، وقد كانت كل قضية فكرية تثير عددًا من المعارك الكلامية التي تتخذ لها ميدانًا في الكتب أو الرسائل أو المناظرات بين العلماء.
 ومن أخطر القضايا التي شغلت المسلمين علماء وعامة في الثلث الأول من القرن الهجري الثالث قضية خلق القرآن، التي طلع بها المعتزلة، وتبناها الخليفة المأمون ثم المعتصم والواثق، وأثارت جدلًا كبيرًا بين المسلمين، فقد كان المعتزلة يعتمدون على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية، وأقاموا مذهبهم على خمسة أصول، أولها التوحيد، وخلاصة رأيهم أن الله تعالى واحد، وأرادوا أن يتجنبوا أي شيء يعتدي على وحدانية الله، وهو منزه عن الشبه والمثيل، وهم ينكرون الصفات لله بحجة أنها لو كانت موجودة لكانت قديمة، فالموصوف القديم لا يجوز أن تكون له صفة حادثة، والمحذور الذي ينشأ عن هذا، في رأيهم، هو تعدد القدماء (تعدد الصفات القديمة!!) مع أنهم يقرون بأن الله عالم قدير فريد سميع بصير، ولكنهم يقولون هو عالم بذاته قادر بذاته.. ويرد أهل السنة عليهم بأن المحذور هو تعدد الذوات وليس تعدد الصفات. ونشأ عن فكر المعتزلة هذا (عدم قدم الصفات) أن القرآن مخلوق لله تعالى لأنهم ينفون عنه سبحانه صفة الكلام، وأهل السنة يرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق (ملخص من الموسوعة الميسرة ص73 وقضايا قرآنية لفضل عباس ص244).
 هذه البدعة أشعلت فتنة اكتوى بنارها أحمد بن حنبل وكبار علماء أهل السنة، وهذه الفتنة هي التي حدت بالعالم الجليل عبدالعزيز بن يحيى الكناني المقيم في مكة للذهاب إلى بغداد ومناظرة رأس المعتزلة في حينه، بشر بن غياث المريسي، وبعد المناظرة التي جرت بينهما بحضور وإدارة الخليفة المأمون لها، ألف الكناني كتابه هذا (الحيدة) يعرض فيه تفصيلات المناظرة.
 وهذا الكتاب لصاحبه عبدالعزيز الكناني المتوفى سنة 240 للهجرة، حققه الدكتور جميل صليبا، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1964م وهو من الحجم المتوسط وتصل صفحاته إلى أكثر من خمسين ومائة صفحة.
 ما الحيدة؟
والحيدة التي جعلت عنوانًا لهذا الكتاب تعني الانحراف عن جواب السؤال الذي يستدعي الإجابة بالنفي أو الإثبات، إلى جواب آخر، هربًا من تبعة إحدى الإجابتين (لعلم المجيب بما يترتب على إحداهما)، وقد أوقع عبدالعزيز مناظره بشرًا في مثل هذا الموقف عدة مرات في المناظرة (وهذه الحيدة تعد ضعفًا وهزيمة للمناظر)).
 أسباب المناظرة:
وأما أسباب المناظرة وبدايتها فقد عرضها الكناني في أول الجزء الأول من كتابه، فقد سمع وهو في مكة بهذه القضية ورهبة الناس منها، وما لحقهم من العنت من فرضها عليهم، فشد الرحال إلى بغداد، وأخفى أمره حتى أظهره على ملأ من الناس يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد الجامع، وبحضور عمرو بن مسعدة (وزير المأمون)، فلما سلم الإمام وقف ونادى ابنه الذي كان معه: يا بني ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق، فهرب الناس من المسجد خوفًا على أنفسهم، وهجم عليه رجال عمرو بن مسعدة، وأخذه هذا إلى الخليفة، وهناك أعلن الكناني عن رغبته في مناظرة بشر.
 تحديد الأصول:
وقبل أن تبدأ المناظرة طلب عبدالعزيز من أمير المؤمنين تحديد الأصول التي يُرجع إليها (فكل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا.. كالسائر على غير طريق..) وتم الاتفاق على تحديد الأصول بالقرآن والسنة، وبنص التنزيل لمن يجحد، وبالتأويل لمن يقر بالتنزيل.
وبعد أن انقطع بشر عن الجواب اعتمادًا على هذه الأصول، طلب أن تدور المناظرة على أصل آخر، وهو النظر والقياس لا على التنزيل، وقبل عبدالعزيز بذلك، واستؤنفت المناظرة وتمكن عبدالعزيز أيضًا من إفحام بشر، فشغب بشر وجماعته على عبدالعزيز، وحاولوا إغراء المأمون به، ولولا قدرته ومهارته في الدفاع عن نفسه، وثناؤه على فهم المأمون وعلمه وفصاحته وعروبته لنالوا منه، ولكن الله عصمه منهم.

وقد كان الكناني لبقًا في مناظرته، فقد طلب أن يكون المأمون حكمًا عدلًا بينهما (وهو يعلم أن رأيه من رأي بشر) ليخرجه من الكلام الشديد الذي يوجهه إليهم.
 مجريات المناظرة:
بعد أن اتفقا على تأصيل أصل التنزيل، اتفقا كذلك على أن يسأل بشر ويجيب عبدالعزيز، فسأل بشر: هل تقول إن القرآن شيء أم غير شيء؟ فإن قلت: إنه شيء فقد أقررت بأنه مخلوق بنص التنزيل ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] وإن قلت: إنه ليس بشيء فقد كفرت (لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه، وأن حجة الله ليست بشيء).
 فقال عبدالعزيز: ما رأيت أعجب منك تسألني وتجيب نفسك عني وتكفّرني، ولم تسمع قولي، فإن كنتَ سألت لأجيبك فاسمع مني.
 فقال المأمون: صدق عبدالعزيز، اسمع منه جوابه ثم رد عليه بما تشاء.
 فقال عبدالعزيز: إن كنت تريد أنه شيء إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم فنعم هو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فلا، والله تعالى لم يسم القرآن والوحي باسم (الشيء) بل سماه نورًا وفرقانًا وهدى و..
 فقال بشر: إنك أقررت بأن القرآن شيء وادعيت بأنه ليس كالأشياء فلتأت بنص التنزيل أنه ليس كالأشياء وإلا فقد ثبتت عليك الحجة بخلق القرآن لأن نص التنزيل أن ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16].
 فقال عبدالعزيز: إن الله تعالى فرق بين الشيء وبين قوله، فقال: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] فهذا فصل بين الشيء المخلوق وبين قول الله تعالى.
 وعاد بشر إلى القول: فليكن ذلك عندك كيف تشاء، ونص التنزيل أن الله خالق كل شيء وهذه اللفظة (كل) لم تدع شيئًا إلا أدخلته في الخلق.
 فقال عبدالعزيز: قال الله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] فهل أبقت الريح يا بشر شيئًا؟
فقال: لا لم تبق شيئًا إلا دمرته.
 فقال عبدالعزيز: لقد كذبك نص التنزيل ﴿ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] فمساكنهم أشياء باقية، وقال الله عن ملكة سبأ ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] وليس فيما أوتيته ملك سليمان، فبهت بشر، وبدت على وجه الخليفة علامات التأثر.
 وقال عبدالعزيز: إنني الآن سأسألك يا بشر. واستعرض عدة آيات عن علم الله ثم سأله: أتقر يا بشر أن لله علمًا كما أخبرنا بنص التنزيل؟
فقال بشر: معنى علمه أنه لا يجهل. فقال عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، حاد بشر عن جوابي، فأنا لم أسأله عن معنى علم الله.
 وتدخل المأمون فقال: إذا قال بشر إن لله علمًا وأقر بذلك، فماذا يكون؟
فأجاب عبدالعزيز: أسأله عندئذ هل يدخل علم الله في الأشياء التي يحتج بشر على أن الله خلقها، فإن قال نعم فقد كفر وإن قال لا فقد رجع عن قوله بخلق القرآن بالحجة السابقة.
 فقال المأمون: قد ظهرت حجتك على بشر، وارجع إلى أصل المسألة، فقال عبدالعزيز: أخبرنا الله تعالى أن له نفسًا إذ قال ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41].. أفتقرّ يا بشر أن لله نفسًا؟ فأقر بشر بذلك، فقال عبدالعزيز: يقول الله تعالى ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] فهل تدخل نفس رب العالمين في هذه النفوس التي تذوق الموت؟
فصاح المأمون: معاذ الله، فقال عبدالعزيز: إذن معاذ الله أن يكون كلام الله داخلًا في الأشياء المخلوقة!
 وهنا قال بشر: أنت رجل متعنت تجاب على مسألتك فتطلب غيرها، وليس عندي جواب غير هذا. وانقطع.
 حجة أخرى:
إلا أن بشرًا قال: لم أنقطع، وإنما عندي حجة أخرتها ليكون انقضاء  المجلس عليها وسفك دمك بها، وهي قول الله تعالى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا  عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]، وليس في الخلق أحد يشك في أن معنى  جعلناه  خلقناه، فكل العرب والعجم لا يجدون فرقًا بين جعل وخلق،  فالله تعالى يقول: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ  الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]، ولا يخالف في ذلك أحد من الفرس  والعرب.
 فقال عبدالعزيز: أنا من العرب وأخالفك، والعرب جميعًا يخالفونك في هذا. فهل تفرد الله بخلق القرآن أم شاركه فيه أحد؟
قال بشر: بل تفرد الله بخلقه.
 فرد عبدالعزيز: فماذا تقول فيمن يقول إن بعض ولد آدم خلقوا القرآن من دون الله؟
فقال بشر: من قال ذلك فهو كافر حلال الدم.
 فقال: وأنا أقول ذلك، وبشر هذا قد كفّر نفسه بلسانه عندما يفسر جعل بمعنى خلق في قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر: 91]". وفي قوله: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة: 224] وفي قوله...
 فقال المأمون: حسبك يا عبدالعزيز، قد أقر بشر على نفسه بالكفر وأشهدتني على ذلك، ولكن بشرًا قال ما قال وهو لا يعقل، وكلامه يلزمه ولا يلزم غيره ممن لا يقر بمثل ما أقر به، ولكن يا عبدالعزيز: ما الفرق بين الجعل والخلق؟ فتحدث الكناني عن أن فعل جعل ورد في القرآن بأحد معنيين: خلق وصيّر، والفرق بينهما أن جعل الذي بمعنى خلق لا يحتاج إلى وصل، والذي بمعنى صير يحتاج إلى وصل، (يشير بذلك حسب فهمنا النحوي، إلى أن جعل بمعنى خلق يتعدى إلى مفعول واحد، وجعل بمعنى صير يتعدى إلى مفعولين) مثل قوله تعالى ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ [الأنعام: 1] بمعنى خلق فهو من المفصل، وقوله (إنا جعلناك خليفة) بمعنى صيرناك فهو من الموصل (أن يوصل مفعوله الأول بمفعوله الثاني).
 وبعد أن طال المجلس سأل المأمون بشرًا: هل عندك شيء تناظر فيه عبدالعزيز؟ فقال: إنه يقول بالتنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس، فليدع مطالبتي بالتنزيل، وليناظرني بغيره. وقبل عبدالعزيز أن يناظره بالنظر والقياس، واتفقا على أن يبدأ عبدالعزيز بالسؤال، فسأله مسألة واستطاع عبدالعزيز أن يفحم بشرًا، ويجعله يحيد وينقطع عن الكلام. فقال المأمون: يا عبدالعزيز دع بشرًا فقد انقطع عن الكلام، واشرح لنا هذه المسألة.. فشرحها عبدالعزيز..
 وهكذا انتهى المجلس بإقرار المأمون بانقطاع بشر عن الكلام. ولما امتحن العلماء وأوذوا سلم منهم عبدالعزيز الكناني. وبعدما رفعت عنهم المحنة في عهد المتوكل ومن بعده. صارت مناظرة الكناني لبشر في عهد الخليفة القادر بالله داخلة في كتب الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


الأربعاء، 10 أبريل 2013

أطلس دول العالم الإسلامي

أطلس دول العالم الإسلامي


صدقي البيك

تتوق نفس كل مسلم إلى أن يتعرف على عالمه الإسلامي الممتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي على مدى 160 درجة من درجات الطول، وأن يلم بمعلومات موجزة عن الدول الإسلامية في هذا العالم، وعن حالة المسلمين في دول العالم الأخرى، وقد حقق هذه الرغبة لكل مسلم الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه الرائع أطلس دول العالم الإسلامي، الذي نشرته دار الفكر بدمشق في طبعته الأولى 1999م، فوضع بين يدي القارئ معلومات عامة كثيرة ودقيقة تلزم المثقف المسلم والسائح المسلم.
إنه أطلس وكتاب في آن واحد يتألف من أكثر من 260 صفحة، هو أطلس لأنه يحتوي على سبعة وثمانين مصوراً تفصيلياً وأكثر من 175 مصوراً صغيراً، ومصوراته كلها ملونة بما يميز دولة من أخرى وهو كتاب جغرافي تاريخي اقتصادي لدول منظمة المؤتمر الإسلامي والدول ذات الأكثرية المسلمة أو التي فيها أقليات مسلمة.
فقد تحدث عن خمس وخمسين دولة تتألف منها منظمة المؤتمر الإسلامي وست دول فيها أكثرية مسلمة ولكنها ليست في منظمة المؤتمر، وهي إثيوبية وإريترية وتوغو وغانة ومكدونية وموزامبيق، ثم يتحدث عن أقاليم في دول غير إسلامية فيها مسلمون بنسبة عالية ولكن هذه الأقاليم تخضع لدول كبيرة فتقل نسبة المسلمين في الدولة كلها، فتراوح نسبتهم بين 20 - 50% ويصل عدد هذه الأقاليم والدول إلى سبعة وأربعين إقليماً ودولة.
معلومات جغرافية عن كل دولة:
وهو عندما يتناول أي دولة من الدول الإسلامية أو أي إقليم يقيم فيه مسلمون يعرض معلومات كثيرة، فيضع اسم الدولة بالعربية والإنجليزية وعلمها وشعارها (بالألوان) وعاصمتها ومساحتها وعدد سكانها حسب إحصائهم في سنة يحددها، ثم عددهم المتوقع عام 2000م، ويذكر نسبة المسلمين فيهم، كما يذكر لغة البلاد، ووحدة النقد المتداولة فيها.
معلومات تاريخية واقتصادية:
ثم يتحدث عن زمن وصول الإسلام إلى هذه البلاد، وكيف وصل إليها، والمراحل التاريخية التي مرت بها بإيجاز، ويتحدث عن اقتصادها في هذه الأيام، وما تنتجه من زراعات وصناعات.
وقد رتب دول كل قسم من الأقسام الثلاثة ترتيباً هجائياً حسب أسمائها باللغة العربية، فبدأ بأذربيجان والأردن وأفغانستان، وألبانيا والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا وأوزبكستان وأوغندا وإيران ثم باكستان والبحرين وبروناي وبنغلاديش وبنين وبوركينا فاسو والبوسنة والهرسك، ثم تركمانستان وتركيا وتشاد وتنزانيا وتونس والجزائر وجزر القمر وجيبوتي وساحل العاج والسعودية والسنغال والسودان وسورية وسيراليون والصومال وطاجاكستان ثم العراق وعمان والغابون وغامبيا وغينيا وغينيا بيساو وفلسطين وقازاخستان وقطر وقيرغزيا والكاميرون والكويت ولبنان وليبيا والمالديف ومالي وماليزيا ومصر والمغرب وموريتانيا وأخيراً النيجر ونيجيريا واليمن.
وهو مثلاً عندما تناول بروناي ذكر أن اسمها الرسمي "سلطنة بروناي دار السلام" ووضع في أعلى الصفحة شعارها وعلمها وحدد أن عاصمتها بندر سيري بيغاوان ومساحتها 765،5كم2 وسكانها عام 1996م ثلاثمائة ألف نسمة ونسبة المسلمين 80% واللغة هي الملاوية والإنجليزية، والنقد المتداول هو الدولار البروني. ويتحدث عن وصول الإسلام إليها عن طريق الدعاة في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وهؤلاء الدعاة عملوا في جزر عذراء ماليزية (الفلبين). فتكون إمارات وسلطنات إسلامية، منها إمارة بروناي التي وقفت مع سلطنة إتشيه (في سومطرة) في وجه أول قوة برتغالية وصلت المنطقة بقيادة البوكرك عام 917ه/ 1511م، ثم قاومت الإسبان والسيطرة البريطانية من بعد حتى استقلت؛ وحكامها اليوم من (آل بلقيّه) يفتخرون بنسبهم العربي الحضرمي.
وتحدث عن جغرافيتها فقال: تغطي الغابات الاستوائية الكثيفة ثلاثة أرباع مساحتها، وتنتج بروناي الأرز وقصب السكر والثمار، وتشغل أشجار المطاط 80% من أراضيها الزراعية! وحقول النفط قرب الشاطئ، والغاز الطبيعي المجمع والمصدر كله إلى اليابان جعلت من سلطانها حسن بلقيه معز الدين والدولة أكبر ثري في العالم.
ويعرض في مقدمته ما حفزه إلى وضع الأطلس (الكتاب)، وهو أن كثيراً من المسلمين حتى المثقفين لا يجهلون معلومات عامة عن الدول الإسلامية فقط بل أسماء هذه الدول!!
ولأهمية منظمة المؤتمر الإسلامي التي جمعت شتات هذه الدول على كثرتها، وضعف قوتها وشأنها، ذكر تواريخ انعقاد قممها وأماكن هذه القمم ابتداءً من القمة الأولى التي عقدت في 25 أيلول 1969م في مدينة الرباط في المغرب (وكان سبب عقد هذه القمة وتشكيل المنظمة العدوان الإسرائيلي الذي تمثل بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في 21/8/1969م وقد قام بها شاب يهودي قدم من أستراليا هو دينيس مايكل روهان وعرقلت إسرائيل عمليات الدفاع المدني لإطفاء الحريق، فاجتمع مجلس الجامعة العربية بعد أربعة أيام واتخذ قراراً بضرورة الدعوة إلى مؤتمر قمة إسلامي) إلى القمة الثامنة في كانون الأول 1997م في إيران (والقمة التاسعة في أوائل عام 2001م في قطر) وقد جعل كل هذه الدول مرتبة ترتيباً هجائياً حسب أسمائها باللغة العربية.
نموذج من معالجته:
فهو عندما يتناول منطقة القوقاز الشمالي (قفقاسيا) من بين الأقاليم المسلمة الخاضعة لدول غير إسلامية يضع للمنطقة مصوراً ملوناً على صفحة كاملة يضم تسعة أقاليم يذكرها إقليماً بعد آخر محدداً عاصمة كل منها ومساحته وعدد سكانه، وهذه الأقاليم هي: أبخازية وعاصمتها سوخومي، وأديغاية وعاصمتها مايكوب، وأوستية الجنوبية وعاصمتها تسخينفالا، وأوستية الشمالية وعاصمتها، أورجنكيدزة، وداغستان وعاصمتها محج قلعة وشيشان أنغوش وعاصمتها جوهر غال (مدينة جوهر) وكانت العاصمة باسم غروزني (وتعني بالروسية الرعب)، وقرشاي تشركيسيا وعاصمتها تشركيس، وكبردينيا وعاصمتها نالتشك وكرسندار كراي وعاصمتها كرسندار، وعدد السكان في هذه الأقاليم التسعة (10.865) عشرة ملايين وثمانمائة وخمسة وستون ألف نسمة حسب إحصاء 1988م، ونسبة المسلمين فيها تراوح بين 65 و95% بسبب هجرة الروس (أيام الاتحاد السوفيتي) إليها وتبلغ مساحتها (195.200كم2). وقد وصل الإسلام إلى القوقاز عن طريق الفتح والدعاة في القرن الهجري الأول، فقد وصل المسلمون مدينة دربند (باب الأبواب) عام 20هـ، وتركز الإسلام في العصر الأموي على يد حبيب بن مسلمة الفهري، ومسلمة بن عبدالملك. توسعت روسية القيصرية في القفقاس بعد ضعف الدولة العثمانية، ثم قسمها السوفييت إلى جمهوريات ذات حكم ذاتي. أشهر حركات التحرر فيها ثورة الشيخ شامل الداغستاني في أواسط القرن التاسع عشر وأخيراً ثورة جوهر دوداييف الذي استشهد، بعد قيام ثورة أدت إلى استقلال الشيشان 1996م، وثورة أصلان مسخادوف التي لا زالت مستمرة.
وعلى هذا المنوال سار في حديثه عن كل دولة إسلامية أو إقليم فيه أكثرية مسلمة.
وقد ألحق بكتابه عدة جداول حول معلومات الدول الإسلامية حسب المساحة أو حسب السكان... وجداول عن عدد المسلمين ونسبتهم في الدول غير الإسلامية.
ووضع أخيراً فهرساً هجائياً عاماً لكل المدن والدول والمعالم الجغرافية وأعلام الرجال والأقوام الواردة في المصورات أو في صفحات المعلومات.
والحقيقة أن الكتاب يختصر العالم الإسلامي وتجمعات المسلمين، فيضعها بين أيدي القراء، مع كثرة معلوماته العامة ودقتها، ووضوح الخرائط.