الأربعاء، 3 أبريل 2013

التضحية بين الاستشهاد والانتحار

التضحية بين الاستشهاد والانتحار


بقلم: صدقي البيك

إن للإنسان السوي مبادئ وقيمًا فكرية وأخلاقية سامية، يحملها أو يتحلى بها.

وكلما كان هذا الإنسان أكثر وعيًا وأعمق يقينًا بما يحمله منها، كانت دعوته إليها أقوى، ودفاعه عنها أشد. وقد يتطلب هذا الدفاع عن المبادئ من صاحبه التضحية بالروح.

والمبادئ والعقائد ليست كلها صحيحة، فمنها ما وضعه البشر وهم فيها مختلفون، فكل منهم يضع منها ما يتفق مع هواه. وهناك العقيدة الإلهية التي أوحاها الله إلى عباده، فحدد أركانها، وبين ما يثبتها وما ينقضها، وما يجب على معتنقيها أن يفعلوه، دفاعًا عنها ونشرًا لها.

وأتباع كل عقيدة حريصون على أن يناضلوا من أجلها، فإذا كانت العقيدة تحمل في أركانها الإيمان بالحياة بعد الموت، فإن معتنقها لا يبخل بروحه عليها، فمن يجاهد في الإسلام في سبيل الله فيقتل، يثبه الله، حياة سعيدة في الجنة، ويتجاوز له على كل الأخطاء التي يحاسب عليها غيره. لذلك يقدم المسلم على القتال غير هياب "يحب الموت كما يحب أعداؤه الحياة" لأنه مؤمن أن قتله في سبيل الله بداية حياة جديدة، دونها كل حياة في الدنيا، ومن هنا كانت كلمات "جهاد" و"شهيد" مصطلحات إسلامية تجاوزت مدلولاتها اللغوية، وأصبحت مخصوصة بالإسلام، كما أن هناك مصطلحات في كل دين آخر، وفي كل مذهب.

فكلمة "شهيد" مصطلح إسلامي، مثل كلمات "مسلم" و"زكاة" و"حاج" و"صائم" كلها مصطلحات لها مدلولاتها الخاصة. فالشهيد الذي يستحق الحياة عند الله ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [آل عمران: 169] هو المسلم الذي يقتل في سبيل الله، ولتكون كلمة الله هي العليا. فالمسلمون الذين يقتلون في معاركهم مع العدو شهداء، أما غير المسلمين في الظاهر، فهم غير شهداء، ولو قتلوا إلى جوار مسلمين في القتال مع أعداء المسلمين، لأن هذا المصطلح لا ينطبق عليهم، كما لا ينطبق عليهم أي مصطلح إسلامي خاص بالمسلمين.

وبسبب يقين كل مسلم بالأجر الذي ينتظر الشهيد، يقدم الشباب المسلمون في ميادين القتال، ويعرضون أنفسهم للقتل المحتم، إذا لم يكن بد من ذلك لإيقاع النكاية والأذى في العدو، قتلًا أو إرهابًا، في عمليات "استشهادية". ويصرّ غير حملة الفكر الإسلامي على تسميتها "انتحارية"!!

إن المنتحر، في الإسلام، هو الذي يقتل نفسه، يأسًا أو خلاصًا من مرض أو ألم نفسي، وأما من يقتل في العمليات الاستشهادية، فهو لا يقتل نفسه، ونفسه عزيزة عليه وغالية، يريد لها الخير والسعادة في الدارين، ولكنه لا يبخل بها على عقيدته، بل يجود بها عندما يجد أنه يجب أن يلتحم مع الأعداء ويقتل منهم ويجرح أكبر عدد ممكن، ولو كان ثمن ذلك روحه. وقد أفتى العلماء بجواز ذلك.

وقد وقفت جيوشنا بعددها وعتادها عاجزة عن نكاية عدونا، ملجمة عن مواجهته، فأخذ يعربد في أجوائنا وفي بحارنا وفي برارينا... هذا العدو المتغطرس المتباهي بآلته العسكرية، زاعمًا أنه الجيش الذي لا يقهر، ماذا يفعل لمواجهة من يأتيه طالبًا الموت له، ولو كان ثمنه دمه؟ بم يهدده؟ وكيف يصل إليه؟ إنه يقوم بتضحيته هذه وهو بكامل وعيه، رجاء رضى الله وأجره الجزيل.

هذا العدو قد أرهبته هذه العمليات فسماها "إرهابًا" بجدارة! وعقد مع سادته وأتباعهم المؤتمرات، وحاكوا المؤامرات لمكافحة "العمليات الإرهابية" (الاستشهادية)، وذلك لأن فرائصه قد ارتعدت من هذه العمليات! بينما لم تفعل ذلك الجيوش الجرارة المربوطة (غير المرابطة)، ولا معارك التفاوض!! ولا التصريحات النارية. فلو لم يكن لهذه العمليات إلا هذا الأثر في قلوب الأعداء لكفت القائمين بها والمخططين لها شرفًا وفخرًا.

ولا يضع من شأن هؤلاء المقدمين على القتل المحتم في عملياتهم الاستشهادية، إقدامُ غيرهم من غير المسلمين، أو من ذوي الأفكار الإلحادية، على عمليات "انتحارية"، نعم هي انتحارية.

كل مادي غير مؤمن بالآخرة، ويحمل فكرًا أو مبدأ من صنع البشر، قد يناضل ويكافح بالكلمة اللينة أو بالصرخة الحادة، قد يتظاهر، وقد يتقبل السجن والتعذيب، ولكنه لا يمكن أن ينهي حياته، قبل أن يتمتع بشبابه وبانتصار فكرته ونجاح جماعته، فالحياة الدنيا عنده كل شيء فكيف يضيع كل شيء؟!

ومع ذلك سمعنا ورأينا عمليات انتحارية أقبل فيها شباب منهم على الموت المحتم! فكيف أقبلوا، إذا كانوا من الماديين الكافرين باليوم الآخر والحياة الأخرى؟

نعم هناك سبب وجيه، فقد كنت أتساءل هذا التساؤل، فأعزو ذلك إلى أن بعضهم ممن بقيت في صدره جذوة إسلام نشأ عليه قبل أن يجره هؤلاء إلى المادية والإلحاد، حتى تبينت لي الحقيقة التي كانت خافية علي وعلى غيري، فقد كان لي ولد دفعته ظروف إلى الالتحاق بحركة فدائية علمانية ماركسية، فعل ذلك لقرابته إلى أحد البارزين في تلك الحركة، وفصل بيني وبينه المكان، حتى وصلتني منه رسالة يعلمني فيها أنه جاء لزيارة أهله، وليودعهم، لأنه سيقوم بعملية فدائية بطولية، ولكنه أعلمني في الرسالة أنه زار طبيب الحركة قبل مدة لعارض ألمَّ به، فصارحه الطبيب الإنسان! بأنه مصاب بالسرطان، وأنه سينتهي أجله بعد بضعة أشهر!! فليستمتع بالحياة قبل أن يدركه الموت مبكرًا؟!

وهنا انكشف لي ما كان خافيًا. إن هذا الطبيب الذي لا يعرف الله، يكذب هو وقيادته على العناصر البريئة، التي لا تزال على الفطرة، تثق بمن لا يستحق الثقة، وتأتمن من ليس أهلًا للأمانة، ممن يتاجر بدماء الشباب، ويحتقر مشاعرهم ويدوس عليها بأقدامه التقدمية وأفكاره الخبيثة، أي طبيب نزيه يصارح مريضه بمثل هذه المصارحة؟

أما هؤلاء الأطباء التقدميون وقادتهم الماديون، فيضربون بذلك عرض الحائط، وأهدافهم من هذه المصارحة الكاذبة هي أن يحطموا أعصاب الشاب، وأن يوئسوه من الحياة، ثم يوهمونه من طرف آخر (القيادة) بأن يضحي في سبيل الوطن والمبادئ فتعلق صوره على الجدران ويتردد اسمه وبطولته على كل لسان!!

فماذا يضيره، بينه وبين نفسه، إذا مات في قتال العدو، قبل أيام من موته المحتم فريسة للمرض؟! وهكذا يقبل الشاب منهم أن يقوم بعملية انتحارية.

إن هؤلاء يرتكبون جريمتين:

مصارحة المريض بمرضه الخبيث، وهذا ما لا يرتكبه طبيب يحترم مهنته ونفسه ويبر قسمه الأبو قراطي! وهذا إذا كان زائره مريضًا حقًا، فكيف إذا لم يكن كذلك؟ إنه يرتكب معه جريمة أخرى هي الكذب، وهذا الكذب ليس خطأ في التشخيص أو في وصف الدواء، لكنه جريمة مع سبق الإصرار والتخطيط مع غيره ممن يتربع على كراسي القيادة.

وطلبت من ولدي، بعد عرض هذه الأفكار عليه في رسالتي الجوابية، أن يؤجل عمليته الفدائية إلى أن تنتهي الأشهر التي حددها له طبيبه الإنسان!! الغيور، والحريص على أن يستمتع مريضه بالحياة الرخية قبل قدوم الموت.

واستجاب.. ومرت الشهور... واكتشف كذبهم وتغريرهم به وبأمثاله.. فتخلى عنهم ولم يرجع إليهم بعد أن انكشفت له الحقيقة.









ليست هناك تعليقات: