الثلاثاء، 20 ديسمبر 2005

الإسلام في شعر أبي تمام




الإسلام في شعر أبي تمام
بقلم: صدقي البيك



ومن يجهل أبا تمام وهو صاحب ملحمة فتح عمورية وشاعر المعتصم الذي خلده وخلد استجابته للصرخة المدوية في تاريخ الإسلام (وامعتصاه)؟!


إنه حبيب بن أوس الطائي، خرج من إحدى قرى حوران في جنوب سورية، وأصبح شاعر المعتصم ومن حوله من القواد والولاة. وإنه لأمر طبيعي أن تبرز الروح الإسلامية ومفاهيم الإسلام في ثنايا شعره، فهو الشاعر الرزين الذي يرافق الخليفة في حله وترحاله وفي غزواته، ويلتقي قواده وولاته، وهم رجالات الدولة الإسلامية التي تواجه الروم البيزنطيين على الحدود وفي الثغور، كما تتصدى للخارجين على الدين والأمن في داخل البلاد، متدثرين بثياب المروق من الدين وبدعوى العنصرية والشعوبية، ولذلك كثرت الأبيات التي تتردد في قصائده حول مفاهيم الإسلام وقيمه وأخلاقه التي يتحلى بها ممدوحه أو من يرثيهم من رجالات الدولة.


فتح عمورية


وإذا بدأنا بقصيدته (فتح عمورية) وجدناها تزخر بهذه المفاهيم، فالأبيات التي تفتتح بها القصيدة تمثل مفهوماً إسلامياً واضحاً وهو محاربة الشعوذة وادعاء علم الغيب «كذب المنجمون ولو صدقوا» فلو كانت هذه الأجرام السماوية تدل على المستقبل لكشفت ما بمعالم الكفر:
لو بينت قط أمراً قبل موقعه
لم تخف ماحل بالأوثان والصلب


ولكن النصر الذي وفضح زيف المنجمين وكذبهم، كان فتحاً مبيناً وعملاً صالحاً يتقبله رب السماء
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب


وعندما يخاطب المعتصم يبين له أن مافعله كان رفعاً لنصيب الإسلام وقعراً لعمود الشرك، فالمعركة بين الإسلام والشرك، وأحدهما في صعود والآخر في انحدار:
أبقيت جد بني الإسلام في صعد
والمشركين ودار الشرك في صبب


ويتمنى لو أن الكفر كان يعلم أن عاقبة أمره مرهونة بسيوف المسلمين من زمن سحيق، وأن ذلك التدمير والإيقاع بالعدو هو من تدبير رجل يعتصم بحبل الله وكل عمله لله:
لو يعلم الكفر كم من أعصر كنت
له العواقب بين السمر والقضب
تدبيـر معتصم بالله، منتقـم
لله، مرتقـب في الله مرتغـب


ويختم قصيدته بالدعاء للخليفة بأن يجزيه الله خير الجزاء على ما قدمه من الخير والنصر للإسلام، فإن هناك رابطة قوية تشد هذه المعركة إلى أختها في بدر.
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة الدين والإسلام والحسب
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيـام بدر أقرب النسـب


الخرمي المارق


وهل تقتصر هذه المعاني والعواطف الإسلامية على هذه القصيدة؟ إن هناك عشرات الأبيات التي تأتي متناثرة في ثنايا القصائد تعبر عن هذه المفاهيم التي تنم عن إيمان صادق لدى الشاعر.


ففي مدائحه الأخرى للمعتصم ومعاركه مع المارقين من الدين والخارجين على السلطان يبرز طبيعة المعركة بين الفريقين، فإذا لم يقنع المارقون بحجج القرآن الكريم، ولم يقبلوا بأركان الإسلام فليس لهم إلا أن يقنعهم السيف بحججه الدامغة:
لما أبوا حجج القرآن واضحة
كانت سيوفك في هاماتهم حججا


وهذا بابك الخرمي الذي فاقت مفاسده مفاسد الدجال، انتهت أموره إلى أسوأ ما تنتهي إليه من الهزائم والهروب، واستبشر الدين وافتر ثغره عن بسمة فيها كل الشكر للخليفة وقائده على ما ألحقاه ببابك الخرمي، ولا غرو في هذا النصر فقد شاركت فيه الملائكة جنود المسلمين:
آلت أمور الشـرك شـر مـآل
وأقر بعـد تخبـط وصيــال
لو عـاين الدجـال بعض فعـاله
لا نهلّ دمـع الأعور الدجـال


وفي قصيدة أخرى يفصح عن سرور الدين وشكر المسلمين للخليفة على ما فعله:
لمـا رأى علميـك ولـى هاربـاً
ولكفره طرف عليـه سـخين
فسـيشـكر الإسـلام ما أوليتـه
والله عنـه بالوفـاء ضميـن


في مدائح آخرى


وإذا مدح الواثقَ أبرز فيه نور النبوة الموروث، وقد جعل الله الخلافة في هذا البيت الذي يمتد بجذوره إلى الرسول عليه السلام:
جعـل الخـلافة فيـه ربٌّ قولـه
سبحانه للشيء «كن فيـكون»
قد أصبح الإسـلام في سـلطانها
والهند بعض ثغـورها والصين


وهو من بني العباس الذين ينتسبون إلى عم الرسول وجده وفيهم استقرت الإمامة فالواثق من:
قوم غدا الميراث مضـروباً لهم
سور عليه من القران حصين
فيهـم سكينـة ربهـم وكتابـه
وإمامتاه واسمـه المحـزون


وكل فخر بني العباس والهاشميين أنهم رهط الرسول عليه السلام وإليه ينتسبون، فالممدوح:
مهـذب قُدت النبـوة والإســ
لام قدَّ الشـراك من نسبـهْ
رهط الرسول الذي تقطع أسـ
باب البرايا غداً سوى سببه


والأخلاق التي يتحلى بها ممدوحوه هي أخلاق الإسلام، وهم يؤدون العبادات الإسلامية، فمحمد بن حميد الطوسي له:
ونفس تعاف العار حتى كأنمـا
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر


وآخر يذهب إلى مكة ملبياً، ومحرماً ورامياً للجمرات، وسافكاً لدعاء البدن، ومقبلاً الركن.
والحج والغزو مقرونان في قرن
فاذهب فأنت زعاف الخيل والإبل
لما تركت بيوت الكفر خاويـة
بالغـزو آثرت بيت الله بالقفـل


فهو جزار للخيول في المعارك وللإبل في موسم الحج، وقد توجه إلى بيت الله بعد أن ترك بيوت الكفر خاوية على عروشها، وفارغة من أهلها:


مفاهيم إسلامية


والمفاهيم الإسلامية المتعلقة بإرادة الله وقدرته ونصره للمؤمنين، تتوزع في قصائده بحيث لا تحصى، فالله هو الذي يرمي أبراج الأعداء فيهدمها «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» فهو يقتبس هذه الآية في قوله:
رمى بك الله برجيها فهدمها
ولو رمى بك غير الله لم تصب
وإذا أراد الله نشـر فضيلة
طويت أتاح لها لسـان حسـود
كان الذي خفت أن يكـونا
«إنـا إلــى الله راجعـونـا»
كأنها جنة الفردوس معروضة
وليس لي عمـل زاك فأدخلها


وما أكثر ما يأخذ صوره من القرآن الكريم أو يضمن بعض آياته في شعره كما سبق وكقوله:
فالله قد ضـرب الأقـل لنـوره
مثلاً من المشـكاة والنبــراس
وبيـّن الله هــذا من بريّتـه
في قوله «خلق الإنسان من عجل»
فاعذلوا كيف شئتــم وقولوا
قد «كفـى الله المؤمنين القتـالا»


وما أكثر فخره بأيام الإسلام وبنصر الإسلام، فأيام انتصارات الخلفاء العباسيين تذكره ببدر وأحد
يوم بـه أخذ الإسـلام زينتـه
بأسرها واكتسى فخـراً به الأبـدُ
يوم يجيء إذا قام الحساب ولم
يذممه بدر ولم يُفضـح بـه أحد
ولولا أبو الليث الهمام لأخلقت
من الدين أسباب الهـوى وأرثّت
أقر عمود الدين في مستقره
وقد نهلـت منـه الليالي وعلـّت
يافارس الإسلام أنت حميته
وكفيتـه كلـب العـدو المعتـدي
ضحكت له أكباد مكة ضحكها
في يـوم بدر والعتــاة الشُّـهد


صفات إسلامية


وكل المعاني والأعمال التي يسبغها على ممدوحيه هي صفات إسلامية، ففي مدحه للمأمون يبرز إشراق وجه حكم الله، وصحة إيمان المأمون في قيادته للجيش، فكل ذلك يحول دون فوز الشرك..
مازال حكم الله يشرق وجهه
في الأرض مذ نيطت به الأحكام
لما رأيت الدين يخفق قلبـه
والكفر فيـه تغطرس وعـرام
ماكان للإشراك فوزة مشهد
والله فيـه وأنت والإسـلام
كتبت له ولأوليـه وراثـة
في اللـوح حتى جفت الأقلام


كما يقول في مدحه لمحمد بن الهيثم بن شبابة
يوم وسمت به الزمان ووقعة
بردت على الإسلام وهي سموم
أوليت فيه الدين يمن نقيبـة
تركت إمام الكفر وهو أميم (مضروب على رأسه)


وعندما يتناول أبو تمام ارتداد الأفشين (واسمه خيذر) وكفره بعدما كان أحد قواد المعتصم تحفل قصيدته التي زادت على ستين بيتاً بكل معاني النفاق والكفر التي تحلى بها هذا الأفشين، فيقول:
حتى إذا ما الله شـق ضميـره
عن مستكن الكفـر والإصـرار
ونحا لهذا الدين شفرته، انثنـى
والحق منـه قانىء الأظفــار
مازال سر الكفر بين ضلوعـه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
صلى لها حيـا، وكان وقودها
ميتاً، ويدخلهـا مع الفجــار
وكذاك أهل النار في الدنيا هم
يوم القيامـة جل أهــل النار


ونختم حديثنا عن إسلاميات أبي تمام في شعره بما ختم به هو حياته من الزهد والإقبال على العبادة والتقوى والتخلي عن متاع الدنيا، مع أنه كان في كهولته، فينظم قصيدة يائية من عشرين بيتاً يتحدث فيها عن شيبه وتناقص أيامه ورضاه بما قسم له الله وأنسه بالموت، ويختمها بأبيات يتحدث فيها عن خوفه من الله ورجائه فيه وتقواه ومخالفته هواه فيقول:

فياليتني من بعد موتي ومبعثي
أكون رفاتـاً لا علي ولا ليـا
أخاف إلهي ثم أرجـو نوالـه
ولكن خوفي قـاهر لرجائيـا
ولولا رجائي واتكالي على الذي
توحد لي بالصنع كهلاً وناشياً
لما ساغ لي عذب من الماء بارد
ولا طاب لي عيش ولا زلت باكياً
على إثر ما قد كان مني صبابة
ليالــي فيهـا كنت لله عاصياً
فإني جدير أن أخـاف وأتقـي
وإن كنت لم أشرك بذي العرش ثانياً


فلو لم تكن له إلا هذه الأبيات لكفته، فهو فيها كما ترى مؤمن بالله لم يشرك به شيئاً، ولكنه يخشى صغائر ذنوبه وصباباته ومعاصيه التي تجعله جديراً بأن يخاف العقوبة عليها، ويتمنى أن يكون من أهل الأعراف ما عليه سىئات ولا له حسنات لينجو بذلك من عذاب الله، وهو يرجو العفو من الله وأن ينال رضاه.


رحم الله أبا تمام، ونسأل الله أن يحقق له رجاءه وأن يسجل هذه الأبيات التي تزخر بالصدق والإيمان والحب للإسلام والمسلمين في سجل حسناته.

ليست هناك تعليقات: