السبت، 24 ديسمبر 2005

الانتفاضة الأولى : أسبابها، مراحلها، وسائلها، نتائجها، 1407- 1414هـ 1987- 1994م

تقرير: الانتفاضة الأولى ، أسبابها،مراحلها، وسائلها، نتائجها، مجلة الجندي المسلم، العدد 105، تاريخ 1/11/2001
بقلم
صدقي البيك
فلسطين التي كتب الله عليها أن تكون أرض الملاحم، وأن تكون أرض الرباط إلى يوم القيامة؛ ابتليت في أوائل القرن العشرين بوباءين هما: الاستعمار والصهيونية، يدعم أحدهما الآخر ويعتمد عليه. وتصدى أهل فلسطين لهذين العدوين اللدودين بكل أنواع التصدي، من إضرابات ومظاهرات وثورات، يأخذ بعضها برقاب بعض، لم تثن عزيمتهم في ذلك كله عظمة بريطانيا، ولاخبث الصهيونية ودهائها، وتحمل شعب فلسطين الأذى من الاستعمار، والتمدد السرطاني من الاستيطان اليهودي؛ حتى إذا قامت للصهاينة دولة عام (1948م)، على رغم تدخل الجيوش العربية للحيلولة دون ذلك، وأكملت الصهيونية احتلال فلسطين عام (1967م)، لم يتوان الشعب عن الاستمرار في المقاومة المسلحة، مع كل ما بذلته إسرائيل بجبروت جيشها من قتل واعتقال وتهديم للبيوت وشق للطرقات وتجريف للأرض، وقلع للأشجار؛ حتى إذا أخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان، وتوقع العالم أن يغلب اليأس على النفوس، ويدفعها الإحباط إلى الخنوع والركود والاستسلام، انطلقت الانتفاضة الأولى في 8-12-1987م.


أسباب الانتفاضة


كان انطلاقها لعوامل أساسية عديدة منها:
1 انعدام أي أمل في حل القضية، بعد أن عقدت اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت من ميدان المعركة والحسم العسكري أكبر دولة عربية.
2 اتساع إنشاء المستوطنات الإسرائيلية على أرض الضفة الغربية، وقطاع غزة.
3 إدراك الفلسطينيين أن أطروحات السلام ما هي إلا أضغاث أحلام.
4 توسع الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي.
5 توجه قيادة المنظمة إلى القبول بالقرارات الدولية، وبالحل السلمي مع الاستجابة لكل المطالب التي تتقدم بها أمريكا الدولة الداعمة لإسرائيل، بعد أن أبعدت من لبنان، وفرض عليها الحصار.
6 إحساس الفلسطينيين أن الأشقاء تخلوا عنهم، وتركوهم وحيدين في مواجهة إسرائيل، وفرض سياسة التجويع عليهم، وجعل الاقتصاد الفلسطيني عالة على المجتمع الإسرائيلي.
لهذه الأسباب وغيرها بدأت تجري هنا وهناك أعمال فدائية فردية توقع القتل أو الجرح في أفراد من المجتمع الصهيوني؛ كحادثة طعن اليهودي (شلومو تاكال) من مستوطنة (بيت يام)، في ساحة التاكسيات في غزة (ميدان فلسطين) يوم الأحد 6-12-1987م، وقام الجيش الإسرائيلي باحتجاز حوالي خمسمائة شخص، أطلق سراحهم بعد حين، وتم تطويق المنطقة.

شرارة الانتفاضة الأولى:


كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الأولى إقدام أحد أقارب اليهودي المطعون، وهو سائق سيارة شحن مقطورة، على صدم متعمد لسيارتين من سيارات العمال الفلسطينيين العائدين من عملهم داخل الخط الأخضر (الأرض المحتلة عام 1948م)، وذلك مساء يوم الثلاثاء 8-12-1987م، وهذا أدى إلى قتل أربعة وجرح تسعة آخرين، وقد أشار مؤلفا كتاب "انتفاضة" الإسرائيليان: رئيف شيف وزميله إلى أن هذه الحادثة مدبرة، قالا: "ومما يدل على أن الحادث مدبر، ومخطط له: وجود سيارة ذات نمرة صفراء شبيهة بسيارات المخابرات الإسرائيلية بجوار الحادث، ركبها السائق الإسرائيلي بعد حادث الصدم، وانطلقت به... ولم يحاكم إلا بعد عشرين شهراً!!".
وما إن سمع الشباب بجريمة الشاحنة حتى بدأت مكبرات الصوت في الجامعة الإسلامية بغزة تطالب بالتوجه إلى المستشفى للتبرع بالدم.
وفي صباح يوم الأربعاء بدأت التظاهرات العارمة بعد صلاة الفجر من مسجد مخيم جباليا، واتجهت إلى مقر الحاكم العسكري، ورجمته الجماهير بالحجارة، كما رجموا مركز الشرطة، وتصدى لهم الجنود الصهاينة بالرصاص، والغازات المسيلة للدموع؛ فسقط شهيد جديد وجرح سبعة وعشرون، وأحرقت سيارتا جيب إسرائيليتان، ثم خرجت جنازة الشهيد بهتافات "الله أكبر"، وانتقلت الأخبار إلى سائر مدن ومخيمات القطاع وانطلقت التظاهرات أيضاً في حي الشجاعية ورفح، وبذلك كان هذا اليوم الأربعاء 9-12-1987م بداية للانتفاضة التي تواصلت يوماً بعد يوم ومدينة بعد مدينة؛ حتى شملت القطاع كله، والضفة الغربية، وامتدت شهراً بعد شهر، وسنة بعد أخرى؛ حتى أكملت سبع سنين.
ففي يوم الخميس استمرت التظاهرات في مدن القطاع ومخيماته، وامتدت إلى نابلس في الضفة، وإلى مخيم بلاطة المجاور لها، وإلى مخيم قلنديا..
وجاء يوم الجمعة فعمت التظاهرات بعد الصلاة كل مدن القطاع والضفة والمخيمات، ووزعت منذ الصباح المنشورات والبيانات، وكان أول بيان ينزل إلى الميدان البيان الأول لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في 11-12-1987م وهو الذي أطلق على هذه الحركة الجماهيرية مصطلح "الانتفاضة" "...لقد جاءت انتفاضة شعبنا المرابط في الأرض المحتلة رفضاً لكل الاحتلال... وسياسة انتزاع الأراضي... وسياسة القهر..." "من بيان حماس الأول".

القوى العاملة في الانتفاضة


مع اتساع نطاق الانتفاضة مكاناً وزماناً؛ شارك فيها كل القوى العاملة التي يضمها المجتمع الفلسطيني من فتح، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، والجبهة الديموقراطية، وغيرها، ومن يؤيد هذه الحركات، ومن لايؤيد أحداً منها!! فقد كانت ثورة عارمة شارك فيها كل فلسطيني بيده أو بلسانه... وتمثلت هذه الحركات في تيارين "حركة المقاومة الإسلامية" التي أصدرت بيانها الأول ووزعته في 11-12-1987، و"القيادة الوطنية الموحدة" التي صدر بيانها الأول في 1-4-1988م.
وإذا كانت هذه القوى كلها قد شاركت في أحداث الانتفاضة اللاحقة؛ فإن انطلاقها لم يكن من تخطيط فئة واحدة من هذه القوى، ولم يزعم أحد الأطراف أنه خطط لها قبل انطلاقها، فقد كان انطلاقها عفوياً، وكان أسرع من تجاوب معها وحرك جماهيرها هو التيار الإسلامي المتجذر في مدن فلسطين ومخيماتها وجامعاتها، وشهدت أيام الانتفاضة الأولى ميلاد حركة "حماس" التي ولدت حركة ضخمة واسعة الانتشار، جيدة التنظيم مشبعة بالفكر، مفعمة بالحماسة.

هل فوجئت إسرائيل بالانتفاضة؟


كانت الانتفاضة بهذا الاتساع المكاني، والامتداد الزماني والشمول، والتنوع في الأساليب من الحجر والشعار على الجدران إلى التظاهر الصاخب العنيف، والقنابل الحارقة، والكمائن، والرصاص، والعمليات الاستشهادية مفاجأة مذهلة لإسرائيل وقادتها السياسيين والعسكريين الذين ظنوا أن سنوات القهر، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان قد حطم روح الجهاد في الشعب الفلسطيني. يقول زئيف شيف في كتابه (انتفاضة): "إن الفلسطينيين فاجؤوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدها.. عنف مدني شعبي ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك... فلم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها بغتة في الخارج ولسكانها على حد سواء!! وكانت المفاجأة في شمول الانتفاضة لجميع فئات السكان شباباً وشيباً، نساء وأولاداً ورجالاً قرويين، ومدنيين، متدينين، وعلمانيين... وهذه المفاجأة كانت أعنف من مفاجأتها بحرب يوم الغفران، فإسرائيل لم تستطع ملاحظة ما يجري داخل بيتها، وفي غرفة نومها".
واستمرت الانتفاضة، وخيبت كل ظنون الخبراء الإسرائيليين والمحللين العرب وبعض القياديين الفلسطينيين بأنها قد تستمر ثلاثة أشهر ثم تتوقف ثم تعود بعد سنة أو سنتين للاندلاع من جديد!! خيبت ظنونهم، وكشفت خطأ تحليلاتهم وتوقعاتهم فاستمرت شهوراً وسنة وسنوات؛ حتى بلغت سبع سنين، تخف هنا لتشتد هناك، وتهدأ في مدينة لتلتهب في أخرى؛ حتى جن جنون قيادة إسرائيل، وتمنت لو أن البحر يبتلع غزة بمن فيها ليستريح إسحاق رابين من مصيبته فيها، ودفعته إلى أن يأمر جنوده بتكسير عظام أيدي رماة الحجارة، وكان للمشهد الذي التقطته أجهزة التصوير التلفزيوني الغربية لجنود صهاينة يكسرون أيدي بعض الشباب بالحجارة الكبيرة دوي هائل في سمع الرأي العام العالمي.

مراحل الانتفاضة:


مرت الانتفاضة عبر مسيرتها بعدة مراحل هي:

المرحلة الأولى:


"مرحلة المواجهة الجماهيرية الشاملة" حيث الإضرابات العامة، والتظاهرات العارمة، ورجم الجنود ومراكز الأمن بالحجارة والزجاجات الحارقة، وزرع المسامير في طريق سيارات الصهاينة، وخرق منع التجول، والعصيان المدني. وفي هذه المرحلة عبئت الجماهير فكرياً ونفسياً وعاطفياً للقيام بهذا المجهود، وألحقت الانتفاضة في هذه المرحلة خسائر اقتصادية بالمحتل الإسرائيلي.

المرحلة الثانية:


مرحلة "المواجهة مع تنامي التكتيكات الموازية": لجأت الانتفاضة إلى مقاطعة الإدارة المدنية الإسرائيلية، واستقالة الموظفين الفلسطينيين من دوائر الاحتلال، وملء الفراغ المؤسساتي هذا بإدارة شؤون الشعب الفلسطيني المدنية بعيداً عن وجود الإدارة الإسرائيلية، مع استمرار التظاهرات والاشتباكات.

المرحلة الثالثة:


اتسمت هذه المرحلة بتراجع النشاطات الجماهيرية، وتنامي العمليات المسلحة التي يقوم بها أفراد متميزون في التنظيمات الفلسطينية، وقد بدأ هذا النوع من المواجهة بالتصاعد المنظم من أوائل عام (1992م)، وذلك بسبب توجه قيادة المنظمة إلى الانغماس في مؤتمر مدريد للسلام.

عمليات متميزة


شهدت هذه المرحلة عمليات متطورة نوعياً هزت الكيان الإسرائيلي هزاً عنيفاً، وشغلت النظام الدولي؛ حتى إنها أدت إلى إيقاف المفاوضات الثنائية التي نجمت عن مؤتمر مدريد. وكان أبرز هذه العمليات: ما قامت به حماس من اختطاف الجندي الإسرائيلي (آفي ساسبورقس) في شباط (1989م) من العمق الإسرائيلي، ثم اختطاف الجندي (إيلان سعدون) في أيار (1989م)، واختطاف الجندي (نسيم توليدانو) في كانون الأول (1992م)، وكان لهذا الحدث الأخير وغيره وقع أليم على السلطات الإسرائيلية، فقد عاشت الضفة والقطاع أجواء حرب حقيقية في أعقاب سلسلة العمليات التي نفذتها حماس بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الانتفاضة؛ فاتخذت إسرائيل قراراً بإبعاد جماعي للمسؤولين في حركة حماس في الضفة والقطاع وبعض قادة حركة الجهاد الإسلامي، فأبعدت في يوم 17-12-1992م (415) معتقلاً، مقيدي الأيدي، ومغمضي العيون، وألقت بهم عبر الحدود إلى لبنان في مكان نال شهرة بعد ذلك هو: مرج الزهور؛ حيث أصر المبعدون على البقاء فيه، ودخلت قضية إبعادهم المحافل الدولية، وناقشها مجلس الأمن الدولي، واستعملت أمريكا كعادتها، حق الفيتو بعد أن أعلنت إسرائيل موافقتها على إعادتهم بعد سنة، كما توقفت المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين خمسة أشهر.
ولكن هل أثرّ هذا الإبعاد على الأحداث في فلسطين؟
نعم؛ ولكن بغير ماكانت تريد إسرائيل؛ فقد أدى ذلك إلى تصاعد العمليات لا إنهائها ففتحت تصفية ضابط الشاباك الإسرائيلي في بيت لحم (حاييم نحمافي)، وقتل جنديان قرب الخضيرة عندما حاول المجاهدون أسرهما، وقصفت سيارة جيب إسرائيلية قرب مستوطنة جافي طال فقتل جنديان وهرب ثالث، ودهس ضابطا صف قرب نابلس فقتلا...
وتمت باكورة العمليات الاستشهادية عندما فجر المجاهد (ساهر حمد الله التمام) سيارته بين حافلتين عسكريتين تقلان جنوداً صهاينة أمام مقهى (فليج إن) في مستوطنة ميحولا في غور الأردن... وهذا قليل من كثير من الأعمال البطولية التي أقضت مضجع إسرائيل، ودفعت قادتها إلى التفكير في الإنسحاب من غزة ولو من طرف واحد!! إذا لم يتم الاتفاق مع المنظمة على خطوات حل.
وقد تحمل الشعب الفلسطيني من المعاناة، والأذى، والقتل، والاعتقال، والتعذيب ما تنوء به دول، ومع ذلك لم يفت ذلك في عزم الجماهير، فصبروا على المكاره؛ متمثلين قول الله تعالى إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون(104) {النساء: 104} فاستمروا بالانتفاضة والصمود، وتقديم الشهداء، والجرحى، والمعتقلين.

أساليب الانتفاضة ووسائلها:


استعمل رجال الانتفاضة أساليب مختلفة، ووسائل شتى في انتفاضتهم، منها: الشعارات على الجدران أو في اللافتات، والتظاهرات، وتشييع الجنائز، والمنشورات، والإضراب، والاستقالات من العمل لدى الإسرائيليين، والكمائن، وقتل الجواسيس المتعاونين مع العدو الصهيوني، واختطاف الجنود، والعمليات الاستشهادية.
وقد حارت أجهزة الأمن الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة، وأسقط في أيدي قادتها، فجيشهم مدرب على مقابلة الجيوش الجرارة، والعمل في ساحات القتال، ومجهز بالطائرات والدبابات والصواريخ؛ لمواجهة مثيلها، فهل يستعملها في مواجهة رماة الحجارة أو المتظاهرين أو المضربين أو الاستشهاديين؟!
ومع ذلك فقد تفننوا في استعمال وسائل القمع، ووسائل الرد على وسائل الانتفاضة؛ فطمسوا الشعارات وكتبوا أخرى، وتصدوا بالرصاص المطاطي والحي، واقتحموا المنازل، وحظروا التجول، وألقوا قنابل الغاز المسيل للدموع، وضربوا بالهراوات ورجموا براجمات الحجارة!! وكسروا العظام، واستعملوا دروعاً بشرية من الفلسطينيين لمواجهة التظاهرات ورماة الحجارة، وخلعوا أبواب المحلات التجارية، أو أغلقوا بعضها بلحام الأوكسجين، وهدموا المنازل، وقلعوا الأشجار...
ومع كل هذه الأساليب الجهنمية، والوسائل القاسية التي استعملتها إسرائيل في مواجهة الانتفاضة لم تلن قناة الشعب الفلسطيني، وصمد بالصدور العارية، والزنود القوية، والقلوب الجريئة في مقارعة الدولة التي تتحدى دولاً!!

توقف الانتفاضة:


في سنوات الانتفاضة، وفي الوقت الذي كان الشعب فيه يجاهد ويراق دمه؛ جرت مفاوضات علنية في مؤتمر مدريد 30-10-1991م، ثم مفاوضات ثنائية في نيويورك امتدت من شهر 11-1991م، إلى شهر 10-94م، وأخرى سرية بين بعض قادة منظمة التحرير الفلسطينية وبين شمعون بيريز في أوسلو عاصمة النرويج، واستيقظ الناس في 30-آب-1993م على إعلان اتفاق أوسلو، ووقع عليه في واشنطن برعاية الرئيس كلينتون في 13-9-1993م على أنه اتفاق إعلان مبادئ، يخلص إسرائيل من ورطتها في مواجهة الانتفاضة، ويقدم للطرف الفلسطيني نتفاً من الأرض الفلسطينية، كما تم توقيع اتفاق "الحكم الذاتي في غزة وأريحا أولاً" في القاهرة في 4-5-1994م، وسمح للسلطة الفلسطينية بالدخول إلى أريحا وقطاع غزة، في الشهر نفسه، ثم دخل رئيس المنظمة الرئيس ياسر عرفات إلى غزة في تموز (1994م).
وبذلك توقفت الانتفاضة الأولى؛ لأن أي تحرك بعد الآن يقوم به المجاهدون سيقف في وجهه أجهزة الأمن الفلسطينية التي كانت مهمتها الأساسية حفظ الأمن (الإسرائيلي)، كما توهم بعض أجنحة الانتفاضة أن البلاد تحررت من إسرائيل، وأنها ستكمل انسحابها من الضفة وغزة، وتخلي المستوطنات، ويعود النازحون واللاجئون!!

نتائج الانتفاضة:


كانت أهداف الانتفاضة متعددة، وأهمها: حمل قوات الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من المناطق المحتلة عام (1967م)، إضافة إلى ماكانت تشير إليه بيانات حماس من أن أرض فلسطين تمتد من البحر إلى النهر، وهناك أهداف مرحلية منها: إطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء الاستيطان، والسيادة الفلسطينية... وقد وصلت الانتفاضة إلى حد إعلان كبار المسؤولين الإسرائيليين عن رغبتهم في الانسحاب من غزة من طرف واحد (من غير اتفاق مع المنظمة) للتخلص من المعاناة التي كانت قوات الجيش الإسرائيلي تقاسيها، وللخروج من المخاضة التي غاصت فيها أقدامهم، فهل حقق اتفاق أوسلو شيئاً من أهداف الانتفاضة المرحلية؟
كان أمر دخول السلطة إلى غزة وأريحا، ثم إلى سائر المدن الفلسطينية وبعض القرى، مظهراً موهماً بالانسحاب الإسرائيلي ودخول السيادة الفلسطينية؛ ولكن الذي ظهر حقيقة حتى بعد سبع سنوات من توقف الانتفاضة ودخول رجال أمن السلطة، أن هذه السيادة الفلسطينية منقوصة؛ بل هي معدومة في منطقة (ب) التي تديرها مدنياً، ولا وجود لها في منطقة (ج) ولا إدارة مدنية أيضاً، وكذلك لاوجود لهذه السلطة عبر الحدود مع مصر والأردن، ولا وجود لها خارج حدود المدن والقرى في منطقة (أ) حيث ترابط الحواجز الإسرائيلية وآليات الجيش الصهيوني عند أطرافها، فكل ما كانت ولا زالت حتى الآن تسيطر عليه أجهزة الأمن الفلسطينية لايزيد عن (12%) من مساحة الضفة والقطاع.
ولكن الانتفاضة كانت قد أنجزت عدة مهام، منها: أنها كشفت زيف الديموقراطية الإسرائيلية، وأظهرت عنصريتها، وأكسبت الفلسطينيين تعاطف الرأي العام العالمي معهم، ووحدت القوى الفلسطينية، وتعززت مكانة المنظمة في الأوساط الدولية حتى اعترفت بها أمريكا وإسرائيل، وعرت الانتفاضة أسطورة جيش إسرائيل الذي لايقهر، وأنتجت جيلاً من الشباب يتمتع بروح التضحية، ولا يهاب مواجهة الجنود المدججين بالسلاح بالصدور العارية، والقلوب العامرة بالإيمان والجرأة، وظهرت آثار هذه النتيجة في قوافل الشهداء والاستشهاديين في انتفاضة الأقصى الحالية.
والحقيقة: أن الانتفاضة الأولى جعلت العالم العربي والإسلامي، والأوساط الدولية، والإعلام العالمي يعيش سبع سنوات من الاستيقاظ صباحاً والنوم مساء على أخبار الانتفاضة البطولية، والصمود الذي يعلّم الآخرين كيف تكون المرابطة، وكيف يكون الصبر على الأذى، وأن المعارك يجب أن تستمر شهوراً وسنوات حتى يتنزل النصر، ولا يجوز أن تنتهي في أيام أو ساعات!!
كما أثبتت الانتفاضة أن الفلسطينيين لايهضمون الوجود الصهيوني الدخيل في بلادهم، وأن التعايش السلمي بين العرب والصهاينة شعار خادع وغير قابل للتطبيق، وأن الزمن لم يسحق روح الجهاد عند الأجيال الحديثة.
ومع ذلك فإن كل هذه النتائج قد دفع الفلسطينيون لها ثمناً غالياً من دمائهم، وشبابهم، وبيوتهم، وأرضهم، وأشجارهم؛ فقد قدموا من 8-12-1987م إلى حزيران (1994م) (1392 شهيداً منهم 353 طفلاً، و130787 جريحاً، و 18211 معتقلاً، و 2400 بيت مهدم، و 185 ألف شجرة مقطوعة...) وكان من الشهداء: أبو جهاد خليل الوزير الذي اغتالته وحدة كوماندوس إسرائيلية في تونس.
لقد أحدثت الانتفاضة الأولى تغييراً جوهرياً في نفسية الشباب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وفي الأرض المحتلة عام (1948م)، وفي مخيمات اللاجئين وتجمعاتهم في البلاد العربية، وفي أرض الشتات في أرجاء العالم، وهو أن التفاوض مع العدو، والحل السلمي لا يقدمان للقضية وللشعب الفلسطيني أي نفع، وأن السبيل الوحيد للوصول إلى تحقيق الأهداف قريبها وبعيدها هو المواجهة مع العدو بالقوة.
ولعل هذا التغير الجوهري هو الذي عجل في انطلاق انتفاضة الأقصى الحالية؛ إضافة إلى اليأس والإحباط الذي أصاب السلطة الفلسطينية، ومن كان يرى في التفاوض وسيلة للحصول على الحقوق؛ إذ لم تحصل السلطة على شيء ذي بال عن طريق التفاوض الذي استمر عشر سنوات مع عدو خبيث ناقض للعهود، لا يتنازل إلا عما كان يشكل له مستنقعاً، أو حقلاً مليئاً بالألغام.

ليست هناك تعليقات: