الثلاثاء، 23 يناير 2007

جولة في ديوان من يطفئ الشمس

جولة في ديوان «من يطفئ الشمس؟» للشاعر الدكتور حيدر الغدير
بقلم: صدقي البيك
إذا كان هناك تعبير شائع عن «إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس» فإن هنا ما هو أبلغ من ذلك في التعبير عن الإسلام وامتداده المكاني والزماني فهو شمس، وأنى لأحد أن يطفئها؟!
هكذا أراد الشاعر الدكتور حيدر الغدير أن يبدي اعتزازه بالإسلام وإعجابه بما قدمه المسلمون قديماً، وما يمكن أن يقدموه على مدى الأزمان المقبلة.
من يطفئ الشمس؟! نحن الشمس خالدة أمّا عدانا فآل، ثم ينحسر
ومن هنا حمّل ديوانه الأول هذا العنوان المتميز، وصدّره بقصيدة تحمل العنوان نفسه. ويضم الديوان 50 قصيدة يمتد تاريخ نظمها من أواخر عام 1413هـ الموافق لأواسط عام 1993م إلى ربيع هذا العام 1427هـ الموافق 2006م. وقد رتب الشاعر قصائده ترتيباً زمنياً بالسنة والشهر واليوم من التاريخين الهجري والميلادي، وصدرت طبعته الأولى في هذا العام. وتتنوع القصائد فيه، وأكثرها إخوانيات بين ثناء ورثاء ومداعبة (22 قصيدة)، ثم روحانيات (13) وتسع قصائد فكرية عامة، وست قصائد وطنية. وكل هذه القصائد عمودية إلا قصيدتين كانتا من الشعر الحر (شعر التفعيلة) أولاهما (ستار) في ذكرى موت نزار قباني رثاء له، وقد اتخذ الشاعر من موته عظة وعبرة مما يصير إليه الإنسان مهما علا شأنه في دنيا الشعر، ومهما مشت في موكب جنازته القصائد والقلوب والمعجبون، ولكن «ماذا وجدت وقد صحوت وأنت وحدك يا نزار/ فانطق فقد سُدل الستار/ وانطق فقد كشف الستار!».
والثانية «يا خالقي ما أكرمك!» وهي من روحانياته، يجول في مقاطعها مسبحاً لله معلقاً عليه رجاءه مستجدياً كرمه خاتماً كل مقطع منها بـ«يا خالقي ما أكرمك!».
دفاعاً عن رسول الله
وإذا كان قد قدم آخر قصيدة له، زمنياً، لتكون فاتحة الديوان ومانحة له عنوانه، فإنه جعل خاتمة الديوان مكاناً وزماناً دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدته «أبا الزهراء» (وهي أطول قصائد الديوان «100 بيت») بعد أن تعرض جنابه الكريم لهمجة ممن أعماهم حقدهم على الإسلام عن أن يقدروا أهل القدر ويعطوهم حقهم من الإجلال والتعظيم الذي أعطاه إياه واحد من المنصفين منهم، هومؤلف «المائة الأوائل» حين جعله على رأس هؤلاء المئة في تأثيرهم الحضاري على الإنسانية. ويفتتح الدكتور حيدر دفاعه عن رسول الله بافتدائه فيقول:
فداؤك قبل قافيتي الجَنان وقبل السيف روحي والبيان
مندداً بهؤلاء الحمقى الذين سينضمون إلى قافلة المتحطمين على صخرة الإسلام
وأما شانئوك فهم بغاث وفرية أحمق هانت وهانوا
ستطويهم ضلالتهم ليغدوا نفايات يطاردها اللعان
عِداك! وأين همْ؟ هلكوا وبادوا وباد ضجيجهم والهيلمان
ويخاطب عيسى عليه السلام شاكياً له من يدّعون اتباعه وهم أبعد الناس عن طهره ونقائه
ويا عيسى، فديتك جئت أشكو
وأنت الطهر نضراً والحنان
أذاةَ ذويك، قد جهلوا وضلوا
وعاثوا بالنبوة واستهانوا
ويختم قصيدته هذه بأن ينقل إلى الرسول عليه السلام تحيات مئات ملايين المسلمين وآمالهم وتضحياتهم وافتداءاتهم له.
ويا مولاي حمّلني سلاماً
لك المليار أخلصه الجَنان
وعهداً أن يفدّوك احتساباً
وهم صدُق وأفئدة هجان
وأسياف مظفرة وخيل
لها في الخطب إقدام وشان
ولا يفوته أن يغْني قصيدته بأشطر من بائية شوقي التي سارت بها الركبان وترنمت بسماع أدائها الآذان «أبا الزهراء قد جاوزت قدري»، «وما نيل المطالب بالتمني»، و«ما استعصى على قوم منال».
وهكذا يا رسول الله:
ستبقى النورَ ما بقي الزمان
ومازان الرياضَ الأقحوان
وما طلعت على الآفاق شمس
وما صدح المؤذن والأذان
إخوانياته
وفي إخوانياته أثنى على عدد من زملائه ومعارفه، وهجا بعض من أساء إليه بغدره وقلة وفائه، وداعب آخرين بروح مرحة، ورثى من أدركهم الموت من الشخصيات الإسلامية المتميزة في الفكر الإسلامي والأدب والصحوة، ويكنّ لهم كل المحبة والتقدير، منهم محمود شاكر، وعبد العزيز بن باز، وعلي الطنطاوي، وكذلك رثى أخاه ووالدته.
رثاؤه لأمه
وفي رثائه لوالدته تتفجر مكامن العاطفة في صدره، ويحز في قلبه أنه لم يتمكن من رؤيتها قبل أن يبعدها عنه الردى، فقد اضطرته الظروف إلى أن يقيم في المملكة بعيداً عنها في بلده دير الزور في سورية، فيقول:
قد كنت أرجو أن أضم ثراك
وترينني قبل الردى وأراك
وأقبّل الكف الطهور متمتماً
بالآي آمل أن أحوز رضاك
ولكن يشاء الله الذي لا راد لقضائه أن تقضي أمه وهو بعيد عنها فيعيش في حسرتين حسرة بعده عنها وحسرة وفاتها من غير أن يراها وينام بين يديها هائناً سعيداً كأنه طفل رضيع، وإن كان قد بدأ الشيب يغزو رأسه، وكان هذا المقطع الأول من القصيدة مفعماً بالحب والتوق إلى أمه:
وأنام بين يديك نومة هانئ
وكأنني وبيَ المشيب فتاك
وكأنني الطفل الذي رضع الهدى
والدر منك ودِفأه وحجاك
ويرنو إلى وجهها موزعاً نظراته فيه فلا تشبع عينه من هذا التمتع ويتبادل مع أمه نظرات السعادة والغبطة.
وتجول في الوجه المكرّم مقتلي
وتجول فيَّ سعيدة عيناك
وكل هذه الأماني طواها الردى، وسبقته أمه في رحلتها الأبدية التي لا مفر لأحد منها:
لكن سبقتِ، وكلنا في رحلة
يجتازها الراضي بها والشاكي
ولذلك يعود إلى ذكرياته معها لعله يجد فيها ما يسلي به نفسه عن هذه الخسارة الفادحة، وأجلّ هذه الذكريات مقابلته لها في حجها إلى الديار المقدسة، وهو فيها مقيم، فتورق فرحته ويتحقق حلمها برؤية ولدها وهي تمتطي إليه شوقها القديم فيغمرها الرضوان وتبكي فرحاً لهذا اللقاء ولتأديتها الحج وهو أكبر أمنياتها، ويشير إلى صبرها على ما لاقته من عنت الظالمين، حتى أراحها من أهوالهم الموت.
وصبرت والأهوال حولك جمة
صبر الحرائر في الأذى الفتاك
حتى لقيت الموت منية وامق
فأتيته مشتاقة وأتاك
ولا يفوت شاعرنا في هذه القصيدة أيضاً أن يستحضر ما يتردد على أذهان السامعين وآذانهم وألسنتهم من شعر رددته الحناجر الندية فيُضمن منها «والذكريات صدى السنين الحاكي» لأمير الشعراء شوقي.
فليتغمد الله برحمته هذه الأم الحنون الصابرة على بعد ولدها، وليلطف الله بهذا الولد البار الذي عز عليه اللقاء بأمه وصعب عليه فراقها الطويل فيصيح:
أماه، إن عز اللقاء وفاتني
فغداً يطيب على الجنان لقاك
دعاباته
وإذا كنا قد شاركنا شاعرنا أحزانه ولوعاته بفقده والدته الغالية، فلنشاركه في دعاباته الأخوية لأهل حمص في قصيدته «يا حمص»، وهي مدينة يوصف أهلها بالفطرية وطيبة القلب والبساطة أو سمها ما شئت، ويقدم قصيدته برغبته الحارة «أن أكون حمصياً لأن لدي عدداً من المؤهلات التي تجعلني جديراً» بهذه النسبة، ويلقيها في حفل زفاف فيكون لهذه الدعابة من الأثر ما يمتع المحتفلين!! مفتوناً بأبنائها الغر الكرام وصباياها الحسان معدناً ومنظراً.
يا حمص إني عاشق مفتون
بخصالك الحسنى وهن فنون
أبناؤك الغر الكرام جداول
وبناتك الريحان والنسرين
يا حمص عندي في هواك شواهد
وقصائد وحقائق وظنون
وما ندري ما هذه الظنون بعد الحقائق؟!
يا حمص جودي لي بما أهفو له
لأظل أعلو سيداً وأكون
كبنيك حيث «جنونهم وفنونهم»
وأظل أحفظ عهدهم وأصون
يا حمص أعطيني مناي فإنني
أرجو الوصال وإنني مسكين
جنسيةً أزهو بها في صحبتي
وكأنني في عرشه هارون
وإذا كان يجوز للحمصي بالولاء أن يستجيب لرغبته وأن يحقق له مناه، فإنني أرحب به أخاً حمصياً كريماً!! وكان باستطاعته أن ينال هذا الشرف، من غير إلحاح في الطلب، لو أنه عرج على حمص في سعيه إلى دمشق لاختيار شريكة حياته!!
ولو فعل ذلك لتغنى بحمص جاداً تغنّيه بدمشق ومن فيها:
يا شام أنت على الزمان وسام
باق بقاء الخلد ليس يضام
يا شام تعروني لذكرك هزة
أموية هي في العظام غرام
وأنا الذي شاقته منك عوارف
جلّت، ويشتاق الكرامَ كرام
فهنيئاً لشاعرنا هذا التغني وتلك الدعابات... ونحن نترقب صدور إخوة ديوانه هذا بفارغ الصبر بعد أن تفرغ شاعرنا لجمع ما تناثر من قصائده وإبداعاته لتأخذ أمكنتها في أرفف مكتباتنا وتستمتع بها أذواقنا وتغنى بهاعقولنا وقلوبنا.
1-5

الخميس، 12 أكتوبر 2006

عرض كتاب استهداف العرب والمسلمين

استهداف العرب والمسلمين
الحقوق المدنية في خطر

· اضربوا بالقنابل المدن التي تؤوي هذه الديدان
· ليس هناك قانون سوى ما يراه بوش مناسباً
عرض: صدقي البيك

وهل يتوقع العرب والمسلمون من أمريكا، ومعها الغرب كله وإسرائيل، إلا الاستهداف؟!
فأوروبا قد استهدفتهما منذ تسعة قرون عبر الحروب الصليبية، ثم من خلال الاستشراق والاستعمار منذ قرنين، وإسرائيل تستهدفهما منذ أكثر من قرن؛ وأما أمريكا فهي تستهدفهما من بعد الحرب العالمية الثانية، بل اشتد سعارها في ذلك وتتولى قيادة هذا الاستهداف، خاصة بعد أن تمكنت القوى الصهيونية من السيطرة على المال والإعلام والسياسة والإدارة فيها.
وإذا كان في أمريكا قوى يهودية صهيونية ومسيحية صهيونية تتربع على هذه الميادين، وتتمثل في الإيباك اليهودية وفي المحافظين الجدد الذين تفوق صهيونيتهم صهيونية الكنيست الإسرائيلي، فإن فيها أيضاً موضوعيين منصفين مجردين من الهوى، ويجرؤون على الكلام، ومن هؤلاء محررة كتاب " استهداف العرب والمسلمين/ الحقوق المدنية في خطر" أستاذة علم الاجتماع في كلية سيمونز في بوسطنن إيلين ك. هاغوبيان.
محتويات الكتاب
حشدت السيدة هاغوبيان في كتابها هذا مقالات لثمانية من الكتاب الأمريكيين المنصفين، وختمتها بمقالة لها، وجعلت كتابها" تحليلاً مهماً وشاملاً لانتهاك المبادئ الدستورية الأمريكية ولائحة الحقوق المدنية على وجه الدقة، وهو انتهاك ينطوي على استهداف العرب والمسلمين" ص9. وهي تقصد من هذا الكتاب إلى " تعرية التفاعل بين السياسة المحلية والخارجية، وإعادة الحقوق التي يضمنها دستور الولايات المتحدة " وتكشف " كيف يؤدي تشبيه المجتمعات العربية والإسلامية بالشياطين إلى تسهيل الانتقاص القانوني والسياسي والاجتماعي من حقوقهم المدنية والإنسانية".
وقسمت كتابها إلى ثلاثة أبواب، ومقدمة هي مقالة لشريف بسيوني، يتساءل فيها " وهل الحرب على الإرهاب حرب على الحقوق المدنية؟" ويرى أن " الحقوق المدنية تعرضت لهضم منهجي بعد 11/9/2001 لم تتعرض له من قبل قوض النظام القانوني مشفوعاً بحالات فظيعة من إساءة استعمال السلطة الحكومية، وكل ذلك باسم مكافحة الإرهاب!! والمستهدفون من هذه الإجراءات هم العرب والمسلمون، ولكن آثارها تمتد لتشمل الجميع" ص16.
وركزت الملاحقات البوليسية على ذوي الأصول العربية وآخرين من المسلمين، ووصل العدوان على القانون والقضاء حداً دفع " محكمة الاستئناف الطوافة لمقاطعة كولومبيا إلى أن تلغي حكماً سابقاً لمحكمة اتحادية يأمر الحكومة بالكشف عن أسماء الذين اعتقلوا بعد 11/9 " ومن الخرق للقانون والحقوق "أن يكون بين المعتقلين في غوانتانامو أناس تراوح أعمارهم بين 15 و95 سنة، وكان بعضهم مرضى".ص17 .
وقد جعلت مخالفات القانون هذه القاضي ديفيد تاتل يكتب " أن إذعان الأغلبية للتأكيدات الحكومية الغامضة لم يكن مخالفا لغرض قانون حرية المعلومات فقط، بل هو يمنع الشعب الأمريكي من اكتشاف انتهاك الإدارة للحقوق الدستورية لمئات المعتقلين في أثناء التحقيق.."
ويذكر الكاتب بعد ذلك أمثلة حية على من أسيء إليهم باستعمال السلطة.
العدوان على الحقوق
وأما الباب الأول فقد حمل عنوان " التشريع والتنظيمات المؤثرة على الحقوق المدنية قبل 11/9 وبعدها". ودار الفصل الأول من هذا الباب حول " القضايا العنصرية والحقوق المدنية قبل 11/9/2001 واستهداف العرب والمسلمين". فقد كان المقيمون في أمريكا من غير المواطنين معرضين تاريخياً للحرمان من الحقوق المدنية لأدنى المخالفات، ويشجع القانون السلوك الحكومي المتطرف ضدهم ولا يقدم لهم القانون أدنى حماية"، ويرى " أن تشبيه العرب والمسلمين في الولايات المتحدة بالشياطين، مصحوباً بالإجراءات القانونية القاسية، كان قد بدأ قبل زمن طويل من مأساة 11/9، ويظهر ذلك في صور شعبية وفي أساطير الأفلام وأجهزة الإعلام..فمنذ سبعينيات القرن العشرين كانت القوانين والسياسات مبنية على الافتراض بأن غير المواطنين من العرب والمسلمين هم إرهابيون محتملون.."ص25
وقد سعت الإدارات الأمريكية إلى تنميط العرب بصفة إرهابيين وطوائف دينية وإسكاتهم من خلال العنف والتهديد بدوافع سياسية، وساعدت وسائل الإعلام على تغذية الصور المعادية للعرب في الثقافة الشعبية وإيقاظ النزعة العنصرية في أوقات الأزمات الوطنية، كما كانت الحكومة الاتحادية تعدل في القوانين ليتيسر لها إبعاد أفراد من العرب والمسلمين " فالعرب، ولا سيما الفلسطينيون، هم الجماعات الرئيسية التي تستهدفها النصوص المتعلقة بالإرهاب." ويذكر أمثلة كثيرة على أناس أبعدوا في عام 1972 أو عام 1987 أو في حرب الخليج.
ومن أسوأ ما كانت تعتمد عليه الإدارة في مواجهة هؤلاء " قضايا الأدلة السرية"، وما لحق مازن النجار وأنور هدام وغيرهما من اعتقال دام عدة سنوات كان اعتماداً على هذا الدليل.
استهداف العرب والمسلمين
وفي الفصل الثاني من هذا الباب تناولت كاتبة المقال نانسي موراي استهداف العرب والمسلمين بعد 11/9/2001 تحت عنوان ( تجميع المعلومات عن العرب والمسلمين، وتصيد "العدو القابع في الداخل" في أعقاب 11/9).
وهو أطول الفصول وأهمها، وتصف الكاتبة فيه بالخديعة والمكر كلمة للمدعي العام " يرفض فيها التحريض على المهاجرين وعلى غير المواطنين، لأن وزارة العدل التي ينتمي إليها عطلت أحكاما ًللمحكمة العليا من قبل قرون من الزمن تثبت لغير المواطنين حقوق حرية التعبير والتجمع والحماية والمعاملة المتساوية أمام القانون في الملاحقات القضائية"ص47. وبذلك " صار غير المواطنين من المسلمين هدفاً رئيسياً للقمع، وامتد هذا القمع إلى كل المهاجرين ولو كانوا من أمريكا اللاتينية"ص48.
وتنعى الكاتبة على السلطة التنفيذية تهديداتها على لسان المدعي العام جون آشكروفت التي وردت في خطاب له بعد شهر ونصف من تدمير مركز التجارة العالمي " فليحذر الإرهابيون المقيمون بيننا: إذا بقيتم بعد انتهاء تأشيراتكم ولو يوماً واحداً فسوف نعتقلكم... وسوف نستخدم كل قانون متاح وكل أسلحتنا وبموجب الدستور لحماية الحياة وتعزيز الأمن في أمريكا." ص50.
وتذكر الكاتبة أنه جرى اعتقال 1200 شخص من المسلمين المواطنين وغير المواطنين، ثم ما يزيد على ألف آخرين واستجوابهم، وتستعرض قضايا متعددة لاعتقال أشخاص ومحاكمتهم والحكم عليهم بأحكام قاسية وغير عادلة، ثم إعداد قوائم كبيرة تضم 314000 شخص من الهاربين الأجانب، وقد حرم هؤلاء المعتقلون من حقوق الالتقاء بمحاميهم، ووضعت " قائمة مراقبة لأناس يريد مكتب التحقيقات استجوابهم بخصوص هجمات 11/9 عممت على المصارف ومكاتب حجز تذاكر السفر " وأماكن أخرى، " ووزعت وزارة العدل على فرق مكافحة الإرهاب في 94 مكتباً للادعاء، قائمة بأسماء خمسة آلاف رجل أجنبي، ثم ضمت إلى القائمة ثلاثة آلاف اسم أخرى."ص63.
وتتبعت الوكالات خط سير الأموال عبر" مشروع البحث الأخضر" واشترك فيه "الجمارك وإدارة الريع الداخلي والشرطة السرية ومكتب ضبط استعمال الكحول والتبغ والأسلحة النارية ومكتب مراقبة الأرصدة الأجنبية..." ص66، وأضافت وزارة العدل إلى قوانين الهجرة تسجيلاً خاصاً للزوار " يوجب على الذكور الزائرين من خمسة وعشرين بلداً إسلامياً أن يأتوا إلى مكاتب إدارة الهجرة والجنسية لأخذ بصماتهم وصورهم..."ص72، ووضعت كذلك نظام تبادل المعلومات عن الطلاب والزوار لمتابعة أكثر من مليون طالب أجنبي في الجامعات والكليات، كما وضعت قوائم الممنوعين من الطيران، والنظام الثاني لتدقيق هويات الركاب مسبقاً. وجرت اعتقالات الشهود الماديين، وجردت الحكومة المواطنين المسلمين من حقوقهم إذا اعتبروا " مقاتلين للعدو غير قانونيين" وهو الاسم الذي أطلق على من أسرتهم القوات الأمريكية في حرب احتلال أفغانستان.
ومع كل هذه الخروقات للقانون والإساءات للمسلمين " فقد قامت ثلاثة مجالس تشريعية للولايات ونحو 240 مدينة وبلدة تمثل خمسة وثلاثين مليون نسمة، باتخاذ قرارات ضد إجراءات الحكومة التي تنتهك الحريات المدنية والحمايات الدستورية الأساسية".ص101
التشبيه بالشياطين
وعالج الباب الثاني استمرار وتعزيز تشبيه العرب والمسلمين بالشياطين، عبر الصور العنصرية لهم. وتناول الكاتب روبيرت مورلينو في الفصل الثالث ذلك تحت عنوان " أعداؤنا بين ظهرانينا: تصوير الأمريكيين العرب والمسلمين في أجهزة الإعلام الأمريكية بعد 11/9"، وعرض صوراً كثيرة وألفاظاً بذيئة وقاسية سالت بها أقلام كتاب في الصحف أو جرت بها ألسنة مقدمي البرامج التلفزيونية، وصبت على العرب والمسلمين، من ذلك عمود مشهور في صحيفة نيويورك بوست " اقتلوا أولاد الزنى ببساطة" و" اضربوا المدن التي تؤوي هذه الديدان بالقنابل" ص110. واستعرض ما لاقته بعض المؤسسات التجارية والصناعية التي يملكها أو يديرها مسلمون، من إغارات وتفتيش وتخريب واتهامات ومصادرات، مثل شركة بتيك المتحدة للبرمجيات، وما تعرضت له من غارات تفتيشية وما نشرته عنها القنوات التلفزيونية والصحف ص112، وما لاقاه ثلاثة شبان عرب وشت بهم فتاة ادعت أنها سمعتهم في مطعم يخططون لهجوم إرهابي(!!)، ووصفوا في الصحف بالجواسيس ص139، ورفض مقدم برنامج تلفزيوني أن يقرأ طلاب إحدى الكليات كتاباً يعرض مفاهيم الإسلام ص144.
ويقول ويل يومانز في الفصل الرابع، تحت عنوان " الممارسون الجدد للحرب الباردة": هناك شبكة مترابطة... توحدها عقائدياً مجموعة آراء وأهداف تزايد تداولها في أعقاب 11/9، وهم يرون أن النزعة الإسلامية أو الإسلام السياسي هو أكبر تهديد للحضارة الغربية بعد انحسار الشيوعية الدولية، وتكتيك الإسلام السياسي هو الحرب غير المتساوقة أو الإرهاب، وهم يدعون إلى إجراءات حكومية عدوانية ضد الإسلاميين. ص157
وعناصر هذه الشبكة يرون أن الأصوليين أو المتأسلمين أقلية صغيرة في جماعة مؤمنة كبيرة ، وهم يشكلون تهديداً كلياً للولايات المتحدة وللعالم الغربي ولمبادئ الحرية. ومن أبرز هؤلاء برنارد لويس، ودانيل بايبس، وستيف إيمرسون، ودوغلاس فايث، وريتشارد بيرل، وميرياف وورمسر؛ وهم يتغلغلون في عدة معاهد ومنابر وصحف ودور نشر ومكاتب حكومية وجماعات ضغط ومجالس عالمية.
وهم يحثون على سياسة خارجية ومحلية متشددة ، ويحاولون (أسرلة) الولايات المتحدة ، ويساوون المعتدلين من المسلمين بالمتشددين، ويعاملون المجتمع الإسلامي كله بالجملة باعتباره يشكل تهديداً، ويكذبون فيما يذكرونه من معلومات ونسب تمثل المتشددين أو المدانين منهم بجرائم أخلاقية ( اغتصاب نساء في الدانمارك مثلاً) ص183، ويصرون على المطالبة بمراقبة الحرم الجامعي.
ومن أسوأ تعميمهم للأحكام أن " بايبس يضع العنيفين وغير العنيفين من معتنقي النزعة الإسلامية في فئة واحدة ، وهو يرى أن صاحب النزعة السياسية الإسلامية الذي لا يستخدم العنف اليوم سوف يستخدمه غداً" ص184.
الحملة الصليبية
وأما الباب الثالث فقد جاء تحت عنوان" الجمع بين الانحراف المحلي الأمريكي إلى أقصى اليمين والسعي إلى التوسع العالمي في تجريم المجتمعات العربية والإسلامية".
ويضم ثلاثة فصول تناول الأول منها ( الفصل الخامس) جذور الحملة الصليبية الأمريكية لمكافحة الإرهاب ، كما تناول السادس حرب بوش الصليبية على الإرهاب ، وفيه يركز نصير عاروري " على مذهب بوش" الذي وصفه آل غور نائب الرئيس كلينتون " بأنه مذهب يلغي عالماً تعتبر فيه الدول نفسها خاضعة للقانون، كي يحل محله فكرة تؤمن بأنه ليس هناك قانون سوى ما يراه رئيس الولايات المتحدة جورج بوش مناسباً" ص242.
ويقوم هذا المذهب على تبرير التدخل العسكري باعتباره " حرباً وقائية " لا يوافق عليها القانون الدولي ، وأنها لازمة لتفادي تهديدات ممكنة ص241، وأن من حق أمريكا شن حروب وقائية على أي أمة مارقة تضبط وهي تبني نوع الأسلحة التي تملكها أمريكا وغيرها، واستعملتها هي من قبل ستين سنة، وتهدد بها بين حين وآخر ص243. ويشير الكاتب في ص248 إلى صليبية بوش بقوله" كثيراً ما يُسرّ بوش إلى الأصدقاء أن يد الله هي التي تقوده. ولكن إذا كان الله هو الذي قاده إلى غزو العراق فإن الله قد أرسل إلى البابا رسالة مختلفة، فإنه مع مؤتمر المطارنة الكاثوليك ومجلس الخط الرئيس للكنائس البروتستانتية يعتقدون أن غزو العراق وقصفه هو ضد مشيئة الله..." ص249، ويتابع الحديث عن تطبيق مذهب بوش في آسيا وفلسطين وفي داخل الولايات المتحدة.
إعادة تشكيل الشرق الأوسط
والفصل الأخير لمحررة الكتاب إيلين هاغوبيان، وهي تتحدث فيه عن تشابك سياسة اليمين والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد احتلال العراق، وتتحدث عن ستة بلدان هي: العراق ولبنان وإيران، ولها عند أمريكا قيادات بديلة مؤسسة ومعترف بها في المنفى، أقامتها الحكومة الأمريكية وترعاها، وربطت نفسها بجماعات الضغط الصهيونية المؤيدة لإسرائيل.
وثلاثة بلدان أخرى: فلسطين والمملكة العربية السعودية وسورية، تتحدث عن قياداتها الحالية وعن عدم وجود قيادات بديلة ترعاها أمريكا. وتعود إلى تفصيل الكلام عن أوضاع هذه البلدان وما يتهددها، وتستنتج أن الولايات المتحدة تتوقع أن تنشئ قوس سيطرة حول الشرق الأوسط ومعها إسرائيل والهند فاعلان رئيسيان، وأنها تتوقع أيضاً أن تثبت شريكتها الإستراتيجية إسرائيل قوة إقليمية مسيطرة، وأن ترغم الدول العربية والإسلامية على الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها.
ويبدو أن ما دعت إليه كونداليزا رايس في حرب لبنان الأخيرة من خلق شرق أوسط جديد هو تنفيذ لهذا التوقع، ولكن نتائج حرب ال33 يوماً قلبت الخطط رأساً على عقب أو أجلتها إلى ظروف جديدة. وكذلك ما صدر عن الرئيس الأمريكي بوش من استعمال تعبير " الفاشية الإسلامية"يدل على استمرار استهداف العرب والمسلمين في داخل أمريكا وعلى نطاق العالم كله، وقد كان هو نفسه بدأ هذه الحملة الشرسة اللامسؤولة بوصفه حربه على العرب والمسلمين ب"الحرب الصليبية"!!

الثلاثاء، 29 أغسطس 2006

كتاب موت الغرب

موت الغرب
ü هذه هي الطريقة التي ينتهي بها الغرب!!
ü سيكون مهدُ الحضارة الغربية قبراً لها!!
ü يأتي يوم يسمي فيه المؤرخون «حبة منع الحمل» باسم «قرص انتحار الغرب»!
عرض: صدقي البيك
وهل يمكن للغرب بدوله المتقدمة حضارياً أن يموت؟
ولمَ لا؟ فقد ماتت أمم كثيرة من قبل، وانهارت إمبراطوريات وتمزقت أخرى قديماً وحديثاً. ماتت شعوب صغيرة بعقوبات إلهية وبكوارث طبيعية، وتقلصت إمبراطوريات حديثاً بعوامل حربية أو تمزقت اتحادات ضخمة بغير عوامل الطبيعة أو الحروب!!
وأما موت الغرب في هذا الكتاب فلن يكون بالأمراض الوبائية ولا بالحروب المدمرة ولا بالكوارث الطبيعية. والغرب في هذا الكتاب يضم دول أوروبا الغربية والشرقية وأمريكا واليابان (كل من يصطبغ بصبغة الحضارة الغربية وأمراضها الاجتماعية).
يقف السيد باتريك بوكانن مطلاً على هذه الدول التي يزيد سكانها على مليار نسمة، وبلغت من الرقي والزينة حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها، متحسراً عليها وهو يراها تهرم وتتلاشى جيلاً بعد جيل وسنة بعد أخرى!! فيحز ذلك في نفسه، فيصرخ في مواطنيها منبهاً محذراً من هذا الخطر الداهم الذي لم يأتهم من خارج حدودهم بل مما جنته أيديهم وصنعته ملذاتهم، مصدّراً كتابه بأبيات للشاعر ت. س. إليوت.
«هذه هي الطريقة التي ينتهي بها العالم بلا ضجيج بل بالأنين والنشيج.»
وقد أصدر كتابه هذا مع بداية القرن الحادي والعشرين في عام 2002م، وترجمه إلى العربية الأستاذ محمد محمود التوبة، ونشرته مكتبة العبيكان في الرياض في 528 صفحة عام 1426هـ/2005م.
وبوكانن يحدد في عنوان كتابه ثلاثة عوامل تؤدي إلى موت الغرب هي 1- شيخوخة المجتمعات الغربية. 2- تناقص السكان بسبب قلة الولادات عما يعوض الوفيات. 3- غزو المهاجرين إلى الغرب.
المعرضون للخطر
وفي الفصل الأول من كتابه يحدد لنا أبرز الدول الغربية التي يتهددها هذا الخطر فيشير إلى أن «عدد سكان أوروبا من أيسلاندا إلى روسيا 728 مليون نسمة.. وسوف يهبط مع حلول عام 2050 إلى 600 مليون نسمة، وترى دراسة أخرى أن هذا العدد سيكون 556 مليوناً في منتصف هذا القرن... وإذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية (العقم) سارية فإن سكان أوروبا سوف يتناقصون إلى 207 ملايين مع نهاية القرن الحادي والعشرين!! وسيكون مهد الحضارة الغربية قد صار قبراً لها!» ويعزو ذلك التناقص في الولادت إلى «الاشتراكية التي تضمن لكل مواطن التقاعد من الدولة، وتجعل النساء قادرات على أن يكسبن أكثر من حاجتهن، فلا يبقين بحاجة إلى الأزواج، ولا يبقى الجميع بحاجة إلى أطفال يشكلون تأميناً لآبائهم وأمهاتهم في شيخوختهم»(!!)، فما حاجتهم ذكوراً وإناثاً إلى الأطفال؟!
ويفصل القول عن بعض دول أوروبا وما آلت إليه ديموغرافيتها فيذكر إيطاليا وروسيا وبريطانيا العظمى واليابان فيقول عن هذه الأخيرة: «سيهبط عدد سكان إلى 104 ملايين نسمة بحلول عام 2050، وسيكون عدد الأطفال اليابانيين حينئذ أقل من نصف عددهم في عام 1950، وستكون قد أصيبت بمرض آخر هو شيخوخة الشعب، حين يكون عدد كبار السن ثمانية أضعاف ما كان عليه عددهم في سنة 1950!! (الأطفال أقل من النصف والعجزة ثمانية أضعاف!!).
ويتساءل: أموت الغرب أمر لا مناص منه؟ أم هو تنبؤ؟ ويجيب: ليس موت الغرب تنبؤاً بل هو تصوير لما يحدث الآن، إنها مسألة رياضيات»!!
أين الأطفال؟
وفي الفصل الثاني يتساءل: أين ذهب كل هؤلاء الأطفال؟ بل هل جاؤوا لنسأل أين ذهبوا؟ إن أمهاتهم وأدْنهم قبل أن يولدوا، فهن يقضين شهواتهن غير متزوجات، أو متزوجات من غير تحمل عناء التربية والنفقة، ومن دون الحد من حريتهن في اقتناص المتعة والتنعم!! والشر كل الشر من حبوب منع الحمل «فقد يأتي يوم يسمي فيه المؤرخون «حبة منع الحمل» باسم «قرص انتحار الغرب»!! والشر كل الشر في عمليات الإجهاض التي تقضي على بقية الأجنة التي أفلتت ونجت من أسلحة دمارها الشامل «حبوب منع الحمل»!! ويضرب أمثلة على هذا الوباء الثاني، فيذكر أن ستة آلاف عملية إجهاض جرت عام 1966 في أمريكا، وقفزت إلى مائتي ألف إجهاض عام 1970م وإلى ستمائة ألف عام 1973، ويذكر أن 40 مليون عملية إجهاض أجريت في الولايات المتحدة منذ أبيح الإجهاض. ويحمّل المسؤولية في هذا التناقص في الولادات للاقتصاد الجديد (الصناعي)، ولإلغاء راتب الأسرة، وهيستيريا القنبلة السكانية، والحركة النسوية، والثقافة الشعبية التي تضع منع الجنس فوق سعادة الأمومة، وانهيار النظام الأخلاقي!
وينعى على أصحاب الثورة الثقافية (مدرسة فرانكفورت: جورج لوكاش، وأنطونيو غرامشي، وماكس هورخيمر، وتيودور أدورنو وإريك فروم، وويلهليم رايخ، وهير برت ماركيوز) الذين دعوا إلى التحلل من الدين وتعاليمه والأخلاق والوطنية.
الهجرات القادمة
«إن الغرف التي أعدت لأربعين مليون نسمة في أمريكا لم يولدوا (بالإجهاض) ملئت بالفقراء والغرباء القادمين من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية» فقد تقاطرت أفواج المهاجرين على أوروبا وأمريكا قادمين من إفريقيا وآسيا.
«ففي عام 1999 تسلل خمسمائة ألف أجنبي إلى الاتحاد الأوروبي بصورة غير شرعية»، «وفي الوقت الذي تنكمش فيه أعداد السكان في البرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان نجد أن عدد السكان في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر سوف يزيد 73 مليون نسمة في خمسة وعشرين عاماً» وهو يرى أن أوروبا غزت إفريقيا واستعمرتها في القرن التاسع عشر، وها هي «إفريقيا «تغزو» أوروبا وتستعمرها»(!!) في القرن الحادي والعشرين.
وهو يتوقع «أن يهبط عدد سكان روسيا من 147 مليوناً إلى 114 مليوناً مع حلول عام 2050، وفي الفترة نفسها يزيد سكان الصين بمقدار 250 مليوناً، وأرض روسيا ضعفا مساحة الصين» ولعله بهذا يشير إلى أنه يتوقع هجرة من الصين إلى روسيا، أو من الدول التي كانت في نطاق الاتحاد السوفيتي (دول إسلامية) والتي سيصبح عدد سكانها بمقدار سكان روسيا وهم «أفتى وأكثر فحولة».
أوروبا في أرذل العمر
وسيشيخ سكان أوروبا وتصبح «رجلاً ميتاً يمشي»، بعد أن فقدوا عامل الرغبة في التضحية. وهذا المرض (عدم الرغبة في التضحية) انتقل إلى أمريكا «التي فقدت آلافاً من الرجال حين نزلت قواتها على شواطئ النور ماندي عام 1944م ولكنها، انسحبت من الصومال بعد خسارتها ثمانية عشر من رجال المغاوير في كمين نصب لهم»!!
ويتعرض لحل مسألة الشيخوخة، الذي نفذته هولندا وذلك بتشريع الانتحار بالمساعدة وبالقتل الرحيم الطوعي، الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000م، حتى أن «الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين 12-15 عاماً يحتاجون إلى موافقة الوالدين كي ينتحروا أو يحصلوا على مساعدة طبيب في ذلك، ولكنهم بعد تجاوزهم السادسة عشرة لا يبقون بحاجة إلى موافقة الوالدين»!! ويخشى «أن لا تلبث أمريكا طويلاً خلف هولندا»، فهذه هي إنسانية الإنسان عند الغربيين وحضارتهم.
ولا ينسى المؤلف أن يذكر في هذا الفصل حالة إسرائيل والبلاد العربية حولها، فيرى أن إسرائيل ستزيد في الربع الأول من القرن الحالي 1.2مليون نسمة، في حين يزيد جيرانها في خمس دول هي الأردن ومصر وسورية ولبنان والسعودية (2.62)مليون، فالأردن وحدها ستزيد في هذه الفترة 4.5مليون نسمة، وسيكون عدد الفلسطينيين في المنطقة 16مليوناً مقابل ستة ملايين يهودي إسرائيلي. ويقول «إسرائيل تواجه إسلاماً له تاريخ قديم بصفته ديناً مقاتلاً وشعوباً مستعدة للموت في سبيل قضيتها.
وفي فصلين آخرين يتحدث عن خشيته من أن تفكر المكسيك في استرداد ما قدمته في أوائل القرن التاسع للولايات المتحدة من أراضيها، كما يأسى لما يجري من حرب على ماضي أمريكا ومحاولة تدمير ذاكرة الأمريكيين وحرمانهم من معرفة أصولهم ومن أين جاؤوا.
اجتثاث المسيحية
وفي الفصل الثامن يخشى أن تجتث المسيحية من أمريكا، وهو يرى أن الشيوعية قد هزمت المسيحية الأرثوذكسية، في حين جعلت الكاثوليكية والبروتستانية من الرجل الأوروبي الغربي جداراً منيعاً لا تخترقه الماركسية!! ولذلك قبل أن يقهر الغرب يلزم اجتثاث إيمانه الديني من الجذور، وعلى هذا بدأت مدرسة فرانكفورت (أصحاب الثورة الثقافية ذوو الجذور الماركسية واليهودية) «بالتعاون مع التقدميين للاستيلاء على المؤسسات التي تشكل أرواح الشباب: المدارس والكليات ووسائل الإعلام الحديثة و... وبعد ذلك يستطيع يسار موحد أن يبدأ باجتثاث المسيحية من الغرب» ويستعرض المراحل القانونية التي تمكن هؤلاء من خلالها بحلول القرن الحادي والعشرين، من إبعاد «احتفالات الفصح ومناظر ميلاد المسيح وتراتيل عيد الميلاد والكتب المسيحية والقصص ومواكب الاحتفال والعطل الدينية، من مدارسنا العامة ومن الميدان العام»، وصاروا يستفزون المسيحيين بالرسوم والصور العارية والفن والسينما للسخرية من الإيقونات المقدسة عند المسيحيين. ويتساءل غاضباً «ماذا يمكن أن يحدث لو أنهم هزئوا بالمحرقة اليهودية بعرض صور كومبيوترية مختلطة لامرأة عارية تلهو مع قوات وحدات الحماية في معسكر أوشفيتز؟!» ويقارن المهانة التي وصلت إليها مقدسات المسيحيين في أمريكا، بمواقف المسلمين الرافضة بشدة والمانعة للإساءات الدينية في فيلم عن النبي أو «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، ويذكر أنه «حين قيل للمسيحيين «في الإنجيل» «فليُدرْ له الخد الآخر» كان المقصود الإهانات الشخصية الموجهة للمسيحيين، لا الإهانات الموجهة ضد الله، فالمسيح نفسه استخدم السوط ليخرج صرافي الأموال من المعبد». ويعرّض بما وصل إليه هؤلاء من حقوق الشاذين جنسياً ومن الحقوق المدنية.
وأخيراً يتحدث عن أن المسيحيين في أمريكا، على الرغم من أكثر يتهم، مذعورون غلبتهم الثورة الثقافية (الماركسية اليهودية)، ففقدت أمريكا يقينها الأخلاقي وانتشر الفساد في أمريكا وأوروبا.
ويخلص إلى أن هناك أربعة أخطار تهدد بقاء الحضارة الغربية وهي «غزوات المهاجرين من العالم الثالث، وانقراض الشعوب الأوروبية، والتعددية الثقافية، ونشوء دولة كبيرة عالمية اشتراكية... وهذه القضايا هي التي ستهيمن على حياتنا فهل ستبقى أمريكا؟ وهل سيبقى الغرب»؟
وفي الجواب عن ذلك، يقول الله تعالى «وتلك الأيام نداولها بين الناس..» و«وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد».
1-6

الاثنين، 28 أغسطس 2006

الشعر والشعراء في سيرة ابن هشام

الشعر والشعراء في سيرة ابن هشام
بقلم : صدقي البيك
كان العرب وما زالوا يهتمون بالشعر نظما ورواية وإنشادا، ويتغنون به ، وينزلون أصحابه منزلة سامية ، ويتفاخرون بشعرائهم ، ويحتفلون إذا نبغ فيهم شاعر لأن الشاعر كان لسان قبيلته المعبر عن آمالها وآلامها والمتحدث بمفاخرها ،كما كان لسان نفسه يعبر عن خلجات قلبه ، وكان الشعر ديوان العرب ، فيه يعرضون أمجادهم وبطولاتهم ، وبه يتذكرون ماضيهم وأيامهم ، ولذلك اختلط تاريخهم بشعرهم ، وكان الشعر سجلا للأحداث التاريخية، ومن هنا زخرت كتب التاريخ التي دونها المؤرخون العرب المسلمون بالكثير من الشعر العربي الذي يسجل الأحداث الحربية والتقلبات السياسية ، والأعمال المجيدة التي يقوم بها ذوو الشأن في القبائل العربية أو الخلفاء والملوك والقواد العسكريون . ومن يطالع أي كتاب من كتب التاريخ الموسوعية كتاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك ) أو تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية)… يجد فيها قصائد كثيرة تدور حول الأحداث التاريخية .

وكتاب (السيرة النبوية ) لعبد الملك بن هشام المعروف ب(سيرة ابن هشام) من كتب التاريخ التي زخرت بالشعر والشعراء ، غني بكل شيء : غني بأخباره الدقيقة عن حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم) ، وغني بأسباب نزول الآيات القرآنية ، وغني بسجلات الأحوال المدنية للشخصيات التي ترد فيه ، وغني بشروحه اللغوية للآيات والأشعار ، وغني كذلك بالشعراء وبالشعر، وسأقف في حديثي الآن عند هذه النقطة الأخيرة وهي غناه الشعر والشعراء.

فقد استقصيت الشعر والشعراء في هذا الكتاب بأجزائه الأربعة ، وتبين لي أنه ذكر (247)شاعرا بأسمائهم كما ذكر شعراء لم يسمهم في خمسين موضعا ، كأن يقول : قال الشاعر ، أو رجل من المسلمين ، أو امرأة من المسلين ، أو رجل من حمير أو من جذيمة أو رجل من الجن….

وهؤلاء الشعراء من شعراء الجاهلية ومن صدر الإسلام ، وهما الفترتان اللتان أرخ لهما ابن هشام في سيرته لأنه تحدث عن حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم) من ولادته إلى وفاته، وذكر قبل ذلك كل الأحداث التي لها ارتباط بأجداد الرسول من إبراهيم الخليل (عليهما السلام) إلى جده وأبيه وعمه أبي طالب ،ومع ذلك ذكر عددا من الشعراء العرب الذين جاؤوا بعد ذلك كرؤبة بن العجاج وأبيه والكميت بن زيد والطرماح وذي الرمة وجرير والفرزدق و…

وقد كثرت المواضع التي يذكر فيها هؤلاء الشعراء وشعرهم ، كما كثرت الأبيات التي أوردها في كتابه حتى قاربت أربعة آلاف بيت من الشعر !! وهي بالتحديد (3979) بيتا وهذا قدر كبير من الشعر يرد في كتاب تاريخ من أربعة أجزاء لا تزيد صفحاته عن
ألف وسبعين صفحة مع ما فيها من شروح وتعليقات كثيرة للأستاذ طه عبد الرؤوف سعد[1] .

وهذا يدل على مدى اهتمام ابن هشام بالشعر وبالشعراء ، وهو يأتي بالشعر عادة لأحد غرضين:

الأول: الاستشهاد اللغوي : فقد دأب على ما سار عليه كثير من المفسرين القدامى للقرآن الكريم ، فهم عندما يفسرون كلمة من إحدى الآيات بمعنى معين يؤكدون صحة هذا المعنى الذي اختاروه بذكر بيت من الشعر يستعمل هذه الكلمة بهذا المعنى ، وابن هشام فسر عشرات الآيات القرآنية ، وكان كلما فسر كلمة غريبة من كلمات هذه الآيات بمعنى خاص يستشهد عليه ببيت من الشعر العربي الذي يحتج به، وقد بلغ عدد الشعراء الذين استشهد بشعرهم تسعة وسبعين شاعرا، كما بلغ عدد الأبيات التي استشهد بها في هذا المجال (158)بيتا، كان يأتي أكثرها بيتا مفردا ، كقوله عند شرحه لكلمة (الهمزة) من الآية (ويل لكل همزة لمزة)[2] (قال ابن هشام :الهمزة الذي يشتم الرجل علانية ويكسر عينيه عليه ويغمز به قال حسان بن ثابت :
همزتك فاختضعت لذل نفس بقافية تأجج كالشواظ
واللمزة الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم ، قال رؤبة بن العجاج:
في ظل عصري باطلي ولمزي [3]
وعندما يورد كلاما نثريا لأحد العرب أو بيتا من الشعر ويشرح غريبه يستشهد على صحة المعنى الذي يراه ببيت من الشعر، كقوله : (فقال أبو جهل – في رده على عتبة بن ربيعة الذي تأثر من خلو دار بني جحش من أهلها - : وما تبكي عليه قلّ ابن قلّ. قال ابن هشام : القلّ : الواحد ، قال لبيد بن ربيعة :
كل بني حرة مصيرهم قلّ وإن أكثرت من العدد)[4]
فهو عند شرحه للهمزة واللمزة والقلّ يأتي بشواهد شعرية فيها هذه الكلمات بالمعاني التي ذكرها ، ومثل ذلك كثير.
وكل الشعراء المتأخرين عن عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم )ذكرهم للاستشهاد بشعرهم ، وأكثر هؤلاء رؤبة بن العجاج الذي استشهد برجزه في ثلاثة عشر موضعا ، كما استشهد بشعر لأعشى قيس في أحد عشر موضعا ، وبشعر لذي الرمة في عشرة مواضع ، واستشهد بتسعة أبيات للكميت بن زيد ، وبستة أبيات لكل من أمية بن أبي الصلت وحسان بن ثابت وبخمسة أبيات لامرئ القيس ، واستشهد ببيت واحد لستة وخمسين شاعرا ، وسائر أبيات الشواهد كانت لستة عشر شاعرا لكل واحد منهم ما بين 2-4 أبيات (41) بيتا.
ثانيا – أما الغرض الآخر من ذكره الشعر فهو عرض الأحداث التاريخية والمفاخر بدءا من فخر عباس بن مرداس بقبيلة عك وتمجيد سبيعة بنت الأحب للكعبة مرورا بأيام العرب وغزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم )إلى رثائه (عليه السلام).
وكانت الأشعار المعروضة في هذه المواضع تراوح بين الأبيات المفردة والمقطوعات والقصائد القصيرة والطويلة ، فقد سرد قصيدة طويلة من أربعة وتسعين بيتا لأبي طالب بن عبد المطلب [5]وعرض قصيدة كاملة من ستة وخمسين بيتا لكعب بن زهير يعتذر فيها للرسول (عليه السلام)[6]

وأكثر من أورد لهم شعرا هو حسان بن ثابت فقد ذكر له (753) بيتا بين شواهد وأبيات وقصائد خاصة في الغزوات ورثاء الشهداء والرسول (عليه السلام)، كما أنه ذكر لكعب بن مالك (411) بيتا ، ولعباس بن مرداس (207)أبيات ، ولأبي طالب (168)بيتا ، ولعبد الله بن الزبعري (104)أبيات وضرار بن الخطاب (102) مائة وبيتين، ولكعب بن زهير (76) بيتا ولعبد الله بن رواحة (75) بيتا ولأمية بن أبي الصلت (65)بيتا ولأبي قيس بن الأسلت (54)بيتا ، ولسبعة شعراء فوق الأربعين بيتا (أعشى قيس ، وأبو جهم حذيفة بن غانم، والحارث بن هشام ، ولبيد بن ربيعة , ومطرود بن كعب الخزاعي ومعاوية بن زهير وهبيرة بن أبي وهب) ، ولبقية الشعراء ما دون ذلك .

وأكثر الأحداث التي استأثرت بأكبر نصيب من الشعر هي غزوة بدر عرض فيها (381) بيتا منها (158) بيتا لستة شعراء مسلمين هم (حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهند بنت أثاثة )و (223)بيتا لعشرة شعراء مشركين هم ( الحارث بن هشام وضرار بن الخطاب وعبد الله بن الزبعري وطالب بن أبي طالب وشداد بن الأسود وأمية بن أبي الصلت ومعاوية بن زهير وهند بنت عتبة وصفية بنت مسافر وقتيلة بنت الحارث)
والملاحظ أنه ذكر للمشركين شعرا وشعراء أكثر مما ذكر للمسلمين ، لأن الهزيمة هصرت قلوبهم وعصرت عيونهم فبكوا ورثوا وحرضوا على الثار والانتقام وردوا على افتخار المسلمين وابتهاجهم بالنصر [7]
وكذلك غزوة أحد إذ عرض حولها (460)بيتا منها (325)بيتا لتسعة شعراء مسلمين هم(حسان وكعب والحجاج بن علاط السلمي وعبد الله بن رواحة وأبو زعنة بن عبد الله الخزرجي وعلي بن أبي طالب وصفية بنت عبد المطلب وأبو الحكم بن سعيد ونعم امرأة شماس المخزومي) و(135)بيتا لستة شعراء مشركين هم (هبيرة بن أبي وهب وابن الزبعري وضرار وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وهند بنت عتبة)[8]
والملاحظ في هاتين الغزوتين أن المنتصر كان أقل شعرا من الآخر كما يلاحظ كثرة النساء الشاعرات في مجال الرثاء والبكاء على القتلى في حال الهزيمة.

وفي غزوة الأحزاب وبني قريظة ذكر (245)بيتا منها (163)بيتا لأربعة شعراء مسلمين هم (حسان وكعب وعلي بن أبي طالب وكبيشة بنت رافع ) و(82) بيتا لسبعة شعراء مشركين هم( معاوية بن زهير وجبل بن جوال الثعلبي وضرار وابن الزبعري ومسافع بن عبد مناف الجمحي وهبيرة وأبو سفيان بن الحارث) [9]

وفي غزوة فتح مكة ذكر (89)بيتا لثمانية شعراء مسلمين(ابن الزبعري ،بعد أن أسلم ، وحسان وانس بن زنيم وبديل بن عبد مناف وبجير بن زهير وعباس بن مرداس ،بعد أن أسلم وجعدة بن عبد الله الخزاعي وبجيد بن عمران الخزاعي ) ولم يذكر للمشركين إلا أحد عشر بيتا لهبيرة بن أبي وهب الذي أقام على كفره حتى مات كافرا[10]
وفي غزوة حنين قيل أكثر من مائتي بيت من الشعر ، منها (193) للمسلمين وقد استأثر عباس بن مرداس منها ب(132)بيتا في تسع قصائد ، وذلك بعد أن أسلم وشاركه بجير بن زهير وضمضم بن الحارث وأبو خراش الهذلي ومالك بن عوف وزيد بن صحار ، وذكر للمشركين اثني عشر بيتا لثلاثة شعراء هم عبد الله ين وهب من بني تميم وخديج بن العوجاء وعطية بن عفيف[11]

وأما بقية الغزوات والأحداث فقد كان ما ذكره في كل منها اقل من مائة بيت كيوم الرجيع وبئر معونة وبني النضير وخيبر والطائف والوفود….
ولا بد من أن أذكر أنه عرض قصيدة كعب بن زهير ( بانت سعاد ) وأبياتها (56)بيتا كما أنه جعل آخر كتابه رثاء حسان بن ثابت للرسول (عليه السلام) فعرض ثلاث قصائد مجموع أبياتها (79)بيتا.

مـنـهـجـه فـي روايـة الشـعـر :
لم يكن عبد الملك بن هشام في سيرته راويا للشعر ومدونا له فقط ، فهو لا يكتفي بما سمعه وحفظه، وهو على يقين أن بعض الشعر العربي قد يكون منحولا ، أو منسوبا إلى غير قائله ، ولذلك فهو يعتمد على ذوقه الأدبي ومعرفته بعلم الشعر فينتقد كثيرا مما يرويه ، بل هو في مقدمة كتابه يشير إلى هذا المنهج فيقول : وأنا، إن شاء الله ، مبتدئ هذا الكتاب ….وتارك بعض ما ذكره ابن إسحق في هذا الكتاب …وأشعارا ذكرها (ابن إسحق) لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به ..)[12] فهو ،كما هو معلوم ، أنشأ كتابه اختصارا لكتاب محمد بن إسحق وتهذيبا له ، ولذلك لم يأخذ كل ما رواه ابن اسحق ( لأن أهل العلم بالشعر لا يعرفونه) ، وإضافة إلى تركه كثيرا مما رواه ابن اسحق ، فإنه كان لا يسلم بكل ما رواه عنه ، بل نراه ، كما يقول الدكتور ناصر الدين أسد ( فنحن نجد في كتاب السيرة لابن اسحق كثيرا من هذا الشعر المنحول الموضوع …فاستدركه عليه ابن هشام وأسقط كثيرا منه وبيّن زيفه وذكر نقد العلماء له )[13] كما يقول عنه في صفحة أخرى ( فقد تعقب ابن هشام ما أورده ابن اسحق ، فاختصر بعضه ونقد بعضه ، ثم ذكر روايات أخرى فات ابن اسحق ذكرها )[14] فقد يذكر ابن هشام أبياتا ذكرها ابن اسحق ونسبها إلى شاعر ،وينسبها هو إلى شاعر آخر ، فقد أورد أبياتا عن ابن اسحق من شعر أبي قيس بن الأسلت ثم قال ( قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له ، والقصيدة أيضا تروى لأمية بن أبي الصلت)[15] وقد يجد أن الشعر كله مصنوع فيشير إلى ذلك ويجعله سببا لإسقاطه ، كما فعل عندما ذكر شعرا لخالد بن عبد العزى في مقابلة تبان أسعد لأهل يثرب وحنقه على يهودها ( قال ابن هشام: الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع فذلك الذي منعنا من إثباته)[16] ، وقد يكتفي بذكر أبيات مما رواه ابن اسحق لأن هذا ما صح له منها ، فبعد حديثه عن ساكني مكة ذكر ثلاثة أبيات لعمرو بن الحارث الجرهمي ثم قال: (قال ابن هشام :هذا ما صح منها ، وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ، ولم يسم لي قائلها)[17]. وعندما أورد قصيدة أبي طالب الطويلة (94) بيتا قال : (هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها)[18]
كما أنه قد يذكر الأبيات والقصائد التي رواها ابن اسحق ثم يحكم عليها بأنها منحولة ، ويعبر عنه بقوله ( وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها له ) أو بقوله (وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له) أو بالقول ( لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذه الأبيات) وهذا كثير فقد بلغ عدد الأبيات التي عدها منحولة (538) بيتا، منها (118) بيتا منكرة مما قيل في غزوة بدر و(125) بيتا مما قيل في غزوة أحد ، كما أن عدد المواضع التي أنكر فيها هذه الأبيات بلغ (42) موضعا، فمثلا عندما ذكر أبيات علي بن أبي طالب في إجلاء بني النضير قال : ( قال ابن هشام : قالها رجل من المسلمين غير علي بن أبي طالب فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر ، ولم أر أحدا منهم يعرفها لعلي)[19]
وهو لا يكتفي بهذه المواقف والتعبيرات بل يصدر أحيانا أحكاما ذوقية أو موسيقية في الشعر فيقول مثلا عندما يذكر أبياتا لأمية بن أبي الصلت في رثاء زمعة بن الأسود وعقيل وبني أسد يقول : ( قال ابن هشام : هذه الرواية لهذا الشعر مختلطة ، ليست بصحيحة البناء)[20] فالبيت الأول من البحر الخفيف ولكن الثاني والثالث والرابع والسادس فيها خلل عروضي ، يرويها بعد ذلك صحيحة كما أنشده إياها خلف الأحمر، فالبيت الذي كان: وابكي عقيل بن أسود أسد البأس ليوم الهيج والدفعة يرويه بالشكل التالي وعقيل بن أسود أسد البأس ليوم الهيج والدفعة.
ومثل ذلك فعل في الأبيات الأخرى المضطربة عروضيا

ويلجأ ابن هشام كثيرا إلى حذف أبيات مما رواه ابن اسحق لأن الشاعر نال فيها من النبي أو من أصحابه ، فيقول بعد إيراده قصيدة من (16) بيتا لأمية بن أبي الصلت في رثاء من أصيب من المشركين في بدر ( وتركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله)[21] . ويقول بعد روايته لقصيدة الحارث بن هشام في الرد على قصيدة منسوبة إلى حمزة بن عبد المطلب في بدر ( أبدلنا من هذه القصيدة كلمتين …. لأنه نال فيهما من النبي (صلى الله عليه وسلم)[22]. كما أنه يحذف أبياتا لما فيها من ألفاظ فاحشة ، فيقول بعد إيراده قصيدة من اثنين وعشرين بيتا لحسان بن ثابت في بدر ( تركنا من قصيدة حسان ثلاثة أبيات من آخرها لأنه أقذع فيها )[23].
فهو يريد أن ينزه كتابه من الألفاظ البذيئة ، ومن عدالته ونزاهته كان يعامل في ذلك شعراء المسلمين وشعراء المشركين بالسوية ، ومما يدل على أمانته أنه يورد شعر المشركين ولو كان فيه ذم أو تمجيد للأصنام ، ويجعل أحيانا نصيب المشركين من الشعر الذي يرويه أكثر من نصيب المسلمين ، بل يروي شعرا لقتيلة بنت الحارث في رثاء أخيها النضر بن الحارث الذي قتل صبرا بعد أن أسر في بدر ،تقول:
ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن بأعز ما يغلو به ما ينفق
ويقول ابن هشام بعد هذه القصيدة : (فيقال ، والله أعلم ، إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه هذا الشعر قال : لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه .)[24]

وهكـذا نجـد أن ابن هشام أولى الشعراء والشعر في سيرته عناية كبيرة واهتماما بالغا وأعطاهم حيزا واسعا ، وكان دقيقا فيما يرويه أمينا فيما يذكره منزها عن البذاءة ناقدا وممحصا ، وبذلك فإن كتابه جدير بأن يعد من مصادر الشعر العربي ، كما يعد من أهم مصادر التاريخ الإسلامي وحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم ).






[1] -في الطبعة التي نشرتها مكتبة الكليات الأزهرية بمصر سنة 1974.

[2] -سورة الهمزة الآية 1
[3] - سيرة ابن هشام الجزء الثاني الصفحة 6.
[4] - السيرة الجزء الثاني الصفحة 83 .
[5] السيرة الجزء الأول من 245 إلى 251 .
[6] -السيرة الجزء الرابع من109 إلى 117
[7] - السيرة الجزء الثاني من الصفحة (259) إلى الصفحة (283).


[8] -السيرة الجزء الثالث من 63 إلى 92.
[9] -السيرة الجزء الثالث من 156 إلى 170.
[10] -السيرة الجزء الرابع من 45 إلى 53.
[11] -السيرة الجزء الرابع من 76 إلى 90.
[12] - السيرة الجزء الأول الصفحة 6
[13] -مصادر الشعر الجاهلي الطبعة السادسة الصفحة 248.
[14] -مصادر الشعر الجاهلي الصفحة 335.
[15] - السيرة الجزء الأول الصفحة 51.
[16] - السيرة الجزء الأول الصفحة 20.
[17] - السيرة الجزء الأول الصفحة 107.
[18] - السيرة الجزء الأول الصفحة 252.
[19] -السيرة الجزء الثالث الصفحة 114.
[20] -السيرة الجزء الثني الصفحة 278.
[21] - السيرة الجزء الثاني الصفحة 277 .
[22] - السيرة الجزء الثاني الصفحة 261 .
[23] - السيرة الجزء الثاني الصفحة 267.
[24] -السيرة الجزء الثاني الصفحة 285.

الثلاثاء، 11 أبريل 2006

كفكفة لدموع الرجال

كفكفة لـ«دموع الرجال»
دراسة لديوان الشاعر فيصل الحجي
صدقي البيك - الرياض

يغلب على مفاهيمنا وثقافتنا، في حاضرنا وماضيا أن البكاء وذرف الدموع من صفات النساء الغالبة واللاحقة بهن «ابك مثل النساء.. تبكي خناس، فلتبكين لك النساء.. وما بكت النساء على قتيل..» وما أكثر الباكيات. وأما الرجال فإنهم «ولا يبكي على نفسه حر، ولكن دمعي في الحوادث غال...». نعم هذا صحيح، ولكن المواقف الإنسانية العاطفية، من فقْد ولد أو والدة أو عظيم أو وطن تطؤه أقدام الغزاة.. تفطر القلوب المرهفة وتعتصر الدموع من العيون، فيسكبها الشعراء عبرات على ألسنتهم. وشاعرنا الأ ستاذ فيصل الحجي من هؤلاء، الذين يتجلدون في مواقف الرجولة، ولا ينحنون للعواصف ولا تلين لهم قناة في مواجهة الشدائد؛ ولكنهم ترق نفوسهم وترهف أحاسيسهم فيذرفون الدموع الغالية عند فقد من يحبون وما يحبون.
ومن هنا جاء ديوانه «دموع الرجال» الذي يضم خمساً وثلاثين قصيدة بكى فيها ذويه وإخوانه ورفاق دربه وزملاءه، كما رثى المفاهيم والقيم التي اندثرت في هذا الزمان، وأجزاء من وطنه صوحت أشجارها وجفت أنهارها بفعل الإنسان المتحضر!
وإذا كانت هذه الدموع الغالية تذرف في مواقف الحزن والأسى فإن شاعرنا يذرفها أيضاً في مواطن الفرح الشديد الممزوج بغربة عن الوطن أو ببعد عن سائر الأهل!
وهكذا كثرت مواقفه المفجرة لدموعه الغزيرة، وكثرت قصائده في ديوانه هذا مع كثرة الأحداث التي تهز كيان الإنسان وطالت مع عمق التجربة الشعورية التي يعيشها.
وقد حرص الشاعر على أن يقدم لكل قصيدة من ديوانه بمقدمة نثرية، تضع السامع والقارئ في الجو المحرك للمشاعر قبل أن تبدأ القصيدة، وهو بذلك يحدد المناسبة، وكل شعره في هذا الديوان مرتبط بمناسبة إنسانية، وقد تطول المقدمة بعرض تفصيلات يمكن الاستغناء عنها.
ولكون شاعرنا يقر لذوي الفضل، وللعلماء الذين غرسوا فيه العلم الديني والأدب والسلوك والشعر، بفضلهم فإنه بدأ ديوانه برثاء هؤلاء، فكانت قصائده الأولى في الديوان «عالِم فقدناه، ورثاء عالم، ورثاء شاعر، وفريق (هو الأديب يحيى المعلمي)، وصديق...» كما أنه ألحق بهذه القصائد رثاءه لمن زامله في التدريس الذي أمضى فيه نحو نصف قرن من عمره، فرثى المدير، والمدرس، والمرشد الطلابي، بل رثى من اخترمه الموت من تلاميذه النجباء. (رثاء طالب، ورثاء تلميذ). ومن حق هذه القصائد الرثائية الأخيرة أن يضمها ديوانه عن معاناة المعلم وما يلاقيه ويقاسيه في هذه المهنة الجليلة والمهمة السامية التي لا تدانيها وظيفة.
وكان الشاعر حريصاً في رثائه لهؤلاء الأعلام المؤثرين في حياته، على أن يبرز أن مما يحز في نفسه عدم تمكنه من حضور مآتمهم وتشييع جنائزهم وتوديعهم، فيطلب ممن يزور ديار الأهل التي قضى فيها الشيخ سليم الرفاعي أن يقوموا عنه بهذه المهمات:
فأقرئوه تحيات معطرة
ممن تجرع صاباً في تنائيه
ما لي نصيب بأن ألقاه في عمري
هذا.. فهل أنا بالأخرى ملاقيه؟
ويعزي نفسه عن كل ذلك بأن:
يرضى الحزين بآمال اللقاء ولو
بعد الممات.. ففيها ما يواسيه
كما أنه يبرز فيهم الصفات الإسلامية التي كانت تشده إليهم وتربطه بهم، فهو يقول في رثائه للشاعر عمر بهاء الدين الأميري:
أمير طوائف الشعراء فرداً
وما ألفيت بعدك من أمير
وكنت لنا لدى (البنا) سفيراً
لتبنينا، فأكرمْ بالسفير
دعاء وحِكم
وهو في كل رثائه لهؤلاء يختم رثاءه بالدعاء إلى الله أن يغفر لهم ويتغمدهم برحمته، وأن يكرم نزلهم وأن يسكنهم فسيح جناته..
إلهي تغمده بواسع رحمة
وشفع به عند الحساب المشفعا
سألت الله أن تحيا سعيداً
حياة الخلد يا (عمر الأميري)
يا رَبَّ (يحيى) إن يحيى قد غدا
في ظلك الحاني فخفف وارحم
يا رب يا رحمن اِرحم (هاشما)
واجعل له سكنى الجنان مصيرا..
وقصائده هذه حافلة بالحكم التي يستخلصها من تجاربه في الحياة، فها هو يحث على تحمل المشاعر الشديدة:
فما الصبور بمن ماتت مشاعره
بل الذي يتلظى ثم يخفيه
ما مات من غادر الدنيا إلى جدث
إذا استمرت بدنيانا أياديه
فما قيمة الأوطان بعد مماتنا
إذا كانت الدنيا ممراً ومعبراً؟!
وتكبر المصيبة مع كبر الفقيد:
ومن كان في الدنيا كبيراً ففقده
يكون لنا من كبريات المصائب
ولن أطيل في هذه الأمور التي يشارك فيها غيره من شعراء الرثاء، ففي ما تميز به منهم كفاية.
رثاء الغوطة
فها هو يرثي غوطة دمشق، فهي حبيبة إلى قلبه، سعد بجمالها وتعلم الهوى من نسيمها العليل، وكم اتكأ على مروجها الخضراء، وكم سمع تغريد طيورها وخرير شلالاتها الصغيرة، وكم تنشّق عبيرها، واستلذ ببرودة مياه أنهارها، ولكن كل هذا الجمال والروعة قضت عليه وحشية البشر المتمدنين، الذين استبدلوا بكل ذلك بنايات من الإسمنت المسلح، فدفنوه تحت شواهق جدرانها وسقوفها.
ويستعرض ما فيها من الأشجار المثمرة، والبلدان التي اشتهر كل منها بنوع من هذه الثمار، فالورد الدوماني (دوما) والعنب الداراني (داريا) والمشمس الكسواني (الكسوة) والتوت الشامي...
أم ذي قناديل الثمار تضي بالـ
ـعنب اللذيذ الفاخر الداراني؟
بالتوت والدراق والخوخ انثنت
أغصانه... بالمشمش (الكسواني)
واستنزفوا (بردى) فجف معينه
أيعيش قلب دونما شريان؟
قد مات مشنوقاً كميتة مجرم
في (المرجة) العطشى على الشطآن
بل مات مسموماً بما قذفوا فيه من نجاسة الإنسان والحيوان، وسرى هذا السم إلى كل الحدائق الغناء التي كانت تمتد على جانبيه فتملأ الأرض على رحبها، ولم يكتفوا بذلك.
طردوا الفراشات التي دأبت على
توزيع بهجتها بكل مكان
طردوا الهزار.. فما سمعت بقفرها
إلا نعيق البوم والغربان
وحل مكان هذه الأصوات العذبة صرير المنشار يقطع الأشجار وهدير الحفارات تشق الأرض والخلاطات تغرس فيها الإسمنت والحديد لعله ينبت بدلاً من الأشجار!!
والمجرمون بحق البيئة والطبيعة أحالوها إلى مصانع ومساكن شاحبة تفتقد الحياة والحيوية، وبدلاً من أن يعمروا الأرض الجرداء حولوا الجنان إلى صحارى لا شجر فيها ولا ماء.
نامت نواطير الكروم فعربدت
فيها الثعالب من بني (البنيان)
وتبدو الغوطة ودمشق في عيني الشاعر امرأة جميلة في أوج صباها، بخديها المتوردين وببراءة نظراتها وصفاء نقيبتها، وتعرضها للموت بموت شريانها (بردى) وانتحاره، وارتكاب البشر بحقه وحقها جريمة الوأد والإعدام.
ويختم قصيدته ببيت هو القمة فيها، فهذا الدمار أفقدها جمالها وروعتها وأمنها، فدمارها وفقدها هذا الأمن متلازمان، وما حلا بها إلا لفقد البشر الإيمان، ولا عودة لأمنها وجمالها إلا بالعودة إلى الإيمان:
غاب الأمان لغيبة الإيمان فانـ
ـتظروا رجوع الأمن والإيمان
رثاء قصيدة
ومن ألطف ما في ديوانه رثاؤه لقصيدة له!! أرسلها إلى إحدى المجلات لترى فيها الحياة وتخرج إلى الناس في أبهى زينتها، ولكنها قطعت أوصالها وغيرت كلمات فيها فساءت معنى ومبنى وموسيقى، بل ماتت وأصبحت جثة هامدة مشوهة دفنت بقاياها على صفحات تلك المجلة، فهال منظرها صاحبها فهي فلذة منه روّاها بدمه وغذاها بفؤاده وكساها من سندس الضاد وآيات القرآن، وحلق بها في الخيال فكانت عنده غادة ازينت وتبخترت بين قصائده، ولكنها استحالت جثة شوهاء على يد صديقه الذي سامها خسفاً، من غير أن يأخذ رأي صاحب القصيدة، فرثاها صاحبها:
حسناء ألبسها القريض بهاء
كيف استحالت جثة شوهاء؟
حوراء كحلها (الذكي) كأنه
يهب الجمال، فأصبحت عمياء
وينهال على صديقه هذا تقريعاً ولوماً على ما ارتكبه في حق قصيدته:
يا مانح الجسم الصحيح دواءه
احفظ دواءك إن أردت شفاء
لأن هذا الدواء وهذا التعديل والتغيير في القصيدة، وإن ناسب هذا الصديق، هو سم قاتل تغلغل في ثنايا القصيدة وأضعف أعضاءها وشوهها.
فارحم قصديتنا ولا تعرض لها
وانظم هناك قصيدة عصماء
ليس البراعة أن تهدّم شامخاً
إن البراعة أن تقيم بناء
رثاء المفاهيم والقيم
وقد تفرد شاعرنا أبو أنس برثاء أصناف أخرى لم يشاركه فيها أحد، فقد خص عدة مفاهيم وقيم إنسانية بقصائد رثائية، عندما وجد هذه القيم والمفاهيم تتلاشى وتموت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتحل مكانها المادية والأثرة، فرثى «الأخوة» و«الحياء» و«الأمل» و«الرجولة»، وبكى «الرحيل» و«الغربة».
ففي رثائه للأخوة يمثل نفسه بلبلاً صداحاً أعرض عنه أصحابه مع أن وشائج القربى والدين واللغة تشده إليهم، ومع ذلك تجاهلوه وأهملوه وعدوه غريباً عنهم:
كيف عدوني غريباً وأنا
مسلم الدين وأرضي عربية؟!
أتراهم وجدوا في لهجتي
لكنة مدخولة أو أعجمية؟
ويتعجب من إعراضهم عن إنشاده مع أنه يصدر عنه بلا مقابل.
فلماذا أعرض الصحب فلم
يطربوا من عزف ألحاني الشجية؟
أيضوع العشب لمّا يُشترى؟
ويضيع الورد إن جاء هدية؟!
ويختم رثاءه لهذه الأخوة التي طعنت فسالت دماؤها:
نزف الجرح فسالت دفقة
فوق أوتاري.. وللنزف بقية
وفي رثائه للرجولة في أسواق النخاسة يرى أن الأسواق غلت فيها الأشياء المادية ورخصت الرجال، فصرتَ عاجزاً عن شراء الخضراوات لغلاء ثمنها، ولم يبق رخيصاً أمامك إلا البشر: فأنت
لا تشتري فجلاً ولا بصلاً
ولا تشتري خساً ولا جزراً
فإذا رغبت في الشراء وأنت قليل ذات اليد فاشتر الرجال فهم أرخص من الخضراوات، وأسعارهم مغرية!!:
إن شئت شيئاً هان مطلبه
شيئاً رخيصاً فاشتر البشرا
وهؤلاء الرجال فيهم المكّار والكذاب والمزور والمرتشي وباعة الأوطان وفاقدو الدين...، وهم مع رخص أسعارهم يشكلون بضاعة فاسدة لا تستحق أن يدفع فيها أي ثمن، لذلك:
دع هذه الأشكال، تنسفها
هوجاء تمحو الزيف والقذرا
ولم يبق يستحق الوصف بالرجولة إلا من يخوض معارك البطولة والتضحيات في كابول والقدس، وفي سجون الظالمين والمستعمرين، وفي محاريب العابدين، فهم الذين يعلق عليهم الآمال، ويراهم نجوماً تضيء للسارين دروبهم:
يا أيها النجم الصغير أضئ
درب الأماني بعدما اعتكرا
يكفي شعاع منك يا أملي
حتى يفوق الشمس والقمرا
كما يراهم قادة يرفعون رايات النصر ويزفون البشرى إلى أمتهم.
وكذلك ينعى الشاعر الحياء الذي اختفى لدى بنات العصر بعد أن شوهن أجسادهن بالمساحيق وتعرين، وتشبهن بالرجال في لباسهن، فضاع حياؤهن ومعه فقدن احترام الرجال وتقديرهم لهن.
كما خابت آ مال الشباب وتحطمت طموحات لطلاب بعد أن سدت في وجوه المتفوقين منهم أبواب الدراسات الجامعة.
دموع الفرح
وإذا كانت صفحات الديوان السابقة مجللة بالألم وبالحزن فتجري الدموع الحارة من العيون، وإذا كانت هذه الصفحات أيضاً تطبع مشاعر القارئ بالأسى والحسرة من كثرة المصائب والكوارث التي تلحق بنا جماعات وفرادى.. فإن الشاعر أبى أن يختم ديوانه هكذا، فإن للدموع معنى آخر وسبباً ثانياً، فحين تشتد الأزمات ثم يحل الفرح بمولود أو زواج أو عودة غائب، تعبّر العيون عن فرحها هذا بذرف دموع الفرح.
فها هو شاعرنا يذرف دموع فرحه عندما تأتيه صور أهله الذين طال غيابه عنهم، ويطيل النظر إليهم، ويرى ما لحقهم من تقدم في السن فالصغار شبوا والشباب اكتهلوا والكهول شاخوا وهرموا، ويصرفه عن ذلك كله رؤية بريق المحبة له والشوق إليه ينعث من عيونهم فينسى غربته وحزنه وألمه:
غنى بروضتنا الهزار وأضاء ليلتنا النهار
يا قلب أطفئ موقد الأحزان فالأحباب زاروا
وفي هذا الموقف الرائع يرى أنه صار بينهم فيمد يده للمصحافة ويفتح ذراعيه للمعانقة، فهو يحيا بينهم:
امدد يديك مصافحاً فلــربما نطق الإطــار
أقبل وعائق جمعهم أسرع فما بقي اصطبار
وينطلق يخاطبهم بسؤال كل منهم عن حاله، يسأل أمه وأباه وإخوانه وأعمامه ويسأل الحاضرين منهم عمن لم يحضر (في الصورة) وعن الصغار والجيران وعن المرابع والديار..
ويفعل مثل ذلك في (البشرى) بقدوم مولودة له، وفي (فرحته) بزواج ولد له أو بنت أو بولادة حفيد له يشعره بأنه صار جداً تقدمت به السن!!
ويضيق بنا المقام عن تقصي ما في الديوان من سلاسة ألفاظ وسمو خيال وصدق عاطفة رقيقة وتنوع موسيقى يوصله إلى خوض ساقية من الشعر الحر متخلياً فيها عن بحور الشعر العربية الواسعة..
1-4

الخميس، 6 أبريل 2006

الـجـذر الـتـكـعـيـبـي : طريقة عـمـلـيـة للـوصـول إلــيـه مـن أي عـدد



الـجـذر الـتـكـعـيـبـي

طريقة عـمـلـيـة للـوصـول إلــيـه مـن أي عـدد
صدقي محمد البيك
برع العرب في العصر العباسي في علم الرياضيات ، وأثروا حقائق الحساب ، ووضعوا علم الجبر واللوغاريتم، وتعاملوا بالأسس(القوى) والجذور ونظموا الجداول … ، ولا يستبعد أن يكونوا قد أوجدوا طرقا عملية للوصول إلى الجذر التربيعي أو الجذر التكعيبي ، غير طريقة التحليل إلى العوامل الأولية ، ولكن لم يطلع عليها الدارسون للرياضيات حديثا أولم تنشر.
ولكن الدارسين حسب المناهج الفرنسية حديثا تعلموا طريقة عملية للوصول إلى الجذر التربيعي (كما هو الحال في سورية ولبنان ) بينما لم يطلع عليها الذين درسوا حسب المناهج الإنجليزية ، ومع ذلك لم أطلع على طريقة عملية للوصول إلى الجذر التكعيبي، كما أنني لم أجد أحدا من المتخصصين في الرياضيات يعرف طريقة عملية للجذر التكعيبي، ولذلك عملت جاهدا ولمدة طويلة امتدت عدة سنوات ،ترددت فيها بين اليأس والأمل ….حتى توصلت إلى اكتشاف هذه الطريقة العملية للوصول إلى الجذر التكعيبي لأي عدد كبير ، غير طريقة التحليل إلى العوامل الأولية.
وقد يجد كثيرون الآن غناء عن هذه الطريقة وغيرها باستعمال الآلات الحاسبة ، التي أغنتهم أيضا عن عمليات حسابية متعددة ، ولكن يبقى الناس ، والطلاب خاصة ، بحاجة إلى تعلم الطرق المختلفة ، ولعل هذه الطريقة تكون جهدا فكريا يضاف إلى المعلومات والحقائق الرياضية الأخرى.
وإليكم هذه الطريقة التي تبقى بحاجة إلى أن يعرف الإنسان مكعب الأعداد الصغيرة من واحد إلى تسعة وهي (1،8 ،27،64، 125 216، 343، 512، 729،،).





الطريقة والخطوات
1)أقسم العدد إلى زمر ثلاثية الخانات، بدءا من اليمين ، بعد وضع العدد في الشكل
2)أبدأ المرحلة الأولى من الزمرة اليسرى ، فآخذ جذرها التكعيبي التقريبي، وأضعه فوق الزمرة .
3)أضع مكعب هذا الرقم تحت الزمرة اليسرى ، وأطرحه منها.
4) أنزل الزمرة الثانية إلى جوار حاصل الطرح السابق، وأبدأ المرحلة الثانية.
5) أجهز عامل معرفة الجذر حسب الخطوات التالية ، في القسم الأيسر من الشكل:
آ – أضع مربع الجذر (الحاصل من المرحلة الأولى مع صفر قبله)
ب –أقسم ذهنيا العدد الناشئ من إجراء الفقرة (4) على ثلاثة أضعاف مربع الجذر (الحاصل من الفقرة آ ) بالنقص ، وأفترض هذا الناتج رقما ثانيا في الجذر وأضعه فوق الزمرة الثانية.
جـ اضرب هذا الرقم المفترض بالجذر المتوصل إليه سابقا مع صفر قبله
د – أجمع الفقرة آ والفقرة ج هـ أضرب حاصل الجمع هذا بالعدد ثلاثة.
و - أجمع إلى حاصل الضرب السابق مربع الرقم المفترض .
ز – أضرب حاصل الجمع في الفقرة (و ) بالرقم المفترض ، وأضع حاصل الضرب تحت العدد الناشئ من إنزال الزمرة (الفقرة 4) وأطرحه منه.
6) أنزل الزمرة الثالثة إلى يمين حاصل الطرح السابق، وأبدأ المرحلة الثالثة ، وأكرر في هذه المرحلة الخطوات الواردة في الفقرة (5) وذلك كما يلي:
آ – أضع مربع الجذر السابق (برقميه) مع صفر قبله.
ب – أقسم ذهنيا العدد الناشئ من إنزال الزمرة (في الفقرة 6 ) على ثلاثة أضعاف مربع الجذر (الحاصل من الفقرة آ ).
جـ أضرب الرقم المفترض ( من الفقرة ب ) برقمي الجذر مع صفر قبلهما.
د – أجمع الفقرتين(آ) و(ج) . هـ أضرب حاصل هذا الجمع بالعدد ثلاثة.
و – أجمع حاصل الضرب السابق مع مربع الرقم المفترض.
ز – أضرب حاصل الجمع السابق (من الفقرة و ) بالرقم المفترض ، وأضع حاصل الضرب تحت العدد الناشئ من إنزال الزمرة (الفقرة6) وأطرحه منه.
7) وهكذا ، وإذا بقي بعد الطرح باق ولم يبق زمر أضع زمرة من ثلاثة أصفار وأكرر الخطوات السابقة مع وضع فاصلة في الجذر لأن الناتج في الجذر سيكون أجزاء عشرية.


نموذج تطبيقي
اجذر تكعيبيا العدد (77854483)
1) 7 2 4
77,854,483
2)الجذر التكعيبي للعدد 77 هو 4 أضعه
فوق الزمرة الأولى. 64
3) أضع مكعب 4 تحت الزمرة وأطرح 13
4) أنزل المرة الثانية 13854
5) أجهز عامل القسمة ، الفقرة آ 40×40=1600
ب – ذهنيا أقسم 13854على
1600×3= 2 تقريبا
جـ أضرب ثم د – أجمع 2× 40= 80
1680
هـ أضرب بثلاثة ×3
5040
و – أجمع مع مربع الرقم المفترض 2×2 +4
5044
ز – أضرب بالرقم المفترض وأطرح ×2
10088 10088
3766
6)أنزل الزمرة الثالثة 3766483
وأكرر الفقرات السابقة آ – أربع الجذر 420×420=176400
ب – أقسم ذهنيا فقرة 6 على آ فيكون الناتج 7 تقريبا
جـ أضرب 7× 420 =2940
د – أجمع 179340

179340
هـ أضرب بثلاثة ×3
538020
و – أجمع مع مربع الرقم المفترض 49
538069
ز – أضرب بالرقم المفترض ×7
3766483
ثم أطرح هذا الناتج من الفقرة 6 3766483
0000000
*************















تطبيق آخر: اجذر تكعيبيا العدد 12895213625.
5 4 3 2
1) 625 213 895 12
2) 8 2×2×2= 8
3) 4
4) 4895
5) آ- 20× 20 = 400
ب - 400× 3= 1200
جـ - 20× 3= 60
د - 460
هـ - 460× 3 =1380
و - 3 × 3 =9
1389
ز- 4167 × 3
728 4167
6) 728213
آ- 230 × 230= 52900
ب‌- 52900×3=158700
جـ - 230 × 4 =920
د - 53820
هـ - 53820×3=161460
و‌- 4 × 4 =16
161476
ز - 645904 × 4
82309 645904



7) 82309625
آ - 2340× 2340 = 5475600
ب_ 5475600× 3 =16486800
جـ - 2340 ×5 =11700
د‌- 5487300
هـ - 5487300 × 3=16461900
و‌- 5 ×5 =25
1646925
ز- 82309625 × 5
000000000 82309625


السبت، 1 أبريل 2006

أسلوبان للدعوة

أسلوبان للدعوة

بقلم صدقي البيك

إن سيرة نبي الله يوسف عليه السلام كانت نموذجا رائعا وأسلوبا متميزا للدعوة إلى الله، بسلوكه النبوي الذي يجعله قدوة لكل مؤمن يدعو إلى الله، وهذا شأن كل الأنبياء عليهم السلام، فحياتهم وتصرفاتهم أسلوب عملي للدعوة، وهم بذلك قدوة ولنا فيهم أسوة.
فالدعوة إلى الله تحتاج إلى داع ومدعو وظرف زماني ومكاني مناسب وإلى حالة نفسية عند المدعو تحفزه إلى السماع والتلقي والقبول.
أما الداعي فهو نبي نضجت عنده الفكرة التي يدعو إليها، وحيا من عند الله، "ذلك مما علمني ربي". وأما المدعو فهو كل من يفتقر إلى هذه الفكرة وهو يخلو منها ويملأ قلبه بأمور مغايرة لها، لا بد من إخراجها قبل أن يتقبل صاحب القلب الفكرة الجديدة؛ ولا يكون ذلك بالعنف والإكراه بل يكون بإظهار فساد الفكرة وضررها على صاحبها أو على المجتمع. وأما الظرف الزماني والمكاني فيتمثل باللقاء بين الداعي والمدعو عيانا أو سطورا أو صوتا أو صورة وصوتا. وأما عنصر الحالة النفسية للمدعو فله دور أساسي في تقبل المدعو للفكرة الجديدة ، وذلك إذا انفتحت نفسه وفتح أذنيه وقلبه لما يقوله الداعي بعد الوثوق به والاطمئنان إليه والشعور بالحاجة إليه في هذا المجال أو في مجالات أخرى.
وليوسف عليه السلام في سيرته كما وردت في سورة يوسف، أسلوبان دعويان لجأ إليهما، وقد توافرت له الظروف المناسبة. أما الأسلوب الأول، فقد اعتمد فيه على الدعوة المباشرة بالكلمة والموعظة ، وورد في قوله تعالى" .. ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين". فهاهو الداعي النبي والمكان والزما ن يجمعانه مع اثنين من قوم لا يؤمنون بالله ويعبدون أرباباً متعددة ، وقد وثقا برفيقهما في السجن واطمأنا إليه من تجارب سابقة جعلتهما يحكمان عليه بالإحسان والمعرفة الصحيحة ، فتوجها إليه بسؤال ملك عليهما تفكيرهما، وهو ما رأياه في منامهما من رموز واضحة لا يفهمانها؛ فهما لذلك يفتحان عيونهما وآذانهما لتتلقى ما ينطق به من تأويل لرؤييهما، ويتلهفان لمعرفة ما وراء رموزهما. ويدرك النبي الداعية هذه الرغبة عندهما ويدرك أيضاً أن هذا هو الوقت المناسب لعرض فكرته وعقيدته عليهما، فهما الآن كالأرض العطشى التي تتشوق لنزول المطر، وهما مستعدان للإصغاء إلى كل كلمة يقولها، ولذلك فقبل أن يجيبهما إلى ما طلباه بآية لا تزيد كلماتها على أربع عشرة كلمة، يتحدث معهما بأكثر من تسعين كلمة يذكرهما فيها بمواقف سابقة له معهما كان يخبرهما فيها بما سيأتيهما من طعام "لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما" ويدعم ذلك بأن هذا من علمه الرباني "ذلك مما علمني ربي" ليزيد وثوقهما به ويفتح قلبيهما على مصراعيه لتقبل كل كلمة يقولها؛ ثم يعرض عليهما عقيدته التي يؤمن بها هو وآباؤه وأنه تخلى عن ملة من كان يحيط به من أناس لا يؤمنون بالله؛ ويربط بين هذا العلم الرباني وبين عقيدته هذه " إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي ...". وهنا تأتي المرحلة التوجيهية والدعوة إلى عقيدته مباشرة، وقد هيأ كل الظروف والأجواء لتقبلها، فيدعوهما إلى المقارنة والموازنة بين عقيدة التوحيد لله وبين عقيدة تعدد الآلهة التي صنعها البشر ووضعوا لها الأسماء " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان... " وهو يتوقع، ونحن أيضاً نتوقع، أن يكون جوابهما (الله الواحد القهار خير) ويزيد التفصيل لهذه العقيدة، فالحكم بيد الله والأمر له ... وهذا هو الدين القيم الذي يجهله كثير من الناس.
وبعد هذه المراحل الثلاث، يستجيب طلبهما منه تأويل ما رأياه، ويوجز ذلك بكلمات" أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه..." ولا يحدد أيهما سينجو وأيهما سيصلب؛ لئلا يغرس اليأس في قلب الذي سيصلب وليبقى الاثنان متعلقين بالأمل في النجاة والحياة !!
ويوسف عليه السلام لا ينسى نفسه وما لحق به من ظلم أدخله السجن، فيطلب ممن (ظن) وعلم أنه ناج منهما أن يذكره عند ربه (الملك)، ولعله يقصد بذلك مظلمته أو ما لديه من إمكانات علمية.
ولكن هذا الناجي شغلته فرحته بالنجاة وعودته إلى ما كان عليه من سقاية الملك الخمرة، وهذه ميدانها العبث وضعف الوعي، فنسي ما وصاه به يوسف عليه السلام.
ويلفت النظر أن الآيات لم تشر إلى إيمان هذا الناجي أبداً، ولعل عدم إيمانه كان عاملاً سلبياً في تذكر يوسف ووصيته. إن هذا الساقي الذي نجا وخرج من السجن لم يظهر في مجريات الأحداث ما يدل على أنه آمن أو أن الدعوة آتت ثمارها معه، مع أنها قد اكتملت فيها كل مقومات تقبل المدعو لها! ولذلك على الداعي أن يدعو موفراً عوامل القبول لدعوته ، وما عليه إن لم يستجب له.
أما الأسلوب الآخر الذي لجأ إليه يوسف عليه السلام في الدعوة فهو أسلوب الاعتماد على الدعوة بالعمل والتطبيق بغير كلام ونصح ووعظ مباشر. وذلك عندما جاءه " الذي نجا منهما وادكر بعد أمة.." فبادره بالاستفتاء وطلب تأويل رؤيا، متحبباً إليه بندائه ب"يوسف أيها الصديق.." ( وأين كانت هذه الصداقة أو التصديق في غضون بضع سنين؟).
ويصرح المستفتي أنه على عجلة من أمره، فالناس ينتظرون عودته بالتأويل ويتوقون إلى المعرفة، والأمر يهمهم جميعاً ملكاً وملأً. ويعلم يوسف أن هناك من يترقب كلماته من علية القوم، بل الملك ومستشاروه، وهم بحاجة إليه ليحل لهم هذا الإشكال الذي شغلهم جميعاً، ومع ذلك لم يلجأ إلى الدعوة والوعظ والأسلوب الذي استعمله مع (الفتيين) في السجن، وكذلك لم يشترط عليهم إطلاقه من السجن، وهذا أبسط حق له، ( وقد ذكر هذا الحق رسول الله محمد عليه السلام بقوله: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات السمان والعجاف، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط عليهم أن يخرجوني...). فهل أهمل يوسف أسلوب الدعوة أم أنه لجأ إلى أسلوب آخر بغير وعظ كلامي؟! لقد وجد من فهمه للرؤيا أ ن الأحداث المقبلة أحداث جماعية فيها صفة الكارثة العامة، وهي إذا لم تعالج بطريقة صحيحة قد تكون نتائجها وخيمة على سكان المنطقة كلها لا على مصر وحدها!! لذلك سارع إلى تأويل الرؤيا ووضع خطة اقتصادية سليمة تضمن حسن التصرف مع الرخاء ومع الشدة لتجنب وتجاوز الكارثة بغير خسائر.
وعندما وصل (التقرير) بتأويل الرؤيا إلى الملك أخذته الدهشة والإعجاب بالتأويل والخطة المحكمة، فأصدر أمره بإخراجه والإتيان به. وهكذا حصل يوسف على ما كان يمكن أن يشترطه عليهم للتأويل، من غير أن يذكر هذا الشرط!! ولم يقف الأمر عند حد الإخراج من السجن بل تجوز ذلك إلى الإتيان به إلى حضرة الملك (ائتوني به). ولكن يوسف عليه السلام لم يكتف بالإخراج من السجن والمثول بين يدي الملك، فهذا شيء مادي حصل عليه، ولا بد له من أن يحصل على شيء معنوي أهم يزيده رفعة وسمواً ونقاء في عيني الملك، فطلب البراءة من التهمة التي أدخل السجن بسببها، فطالب، بعزة المؤمن وكرامته، بالتحقيق مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن (ارجع إلى ربك (الملك) فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، إن ربي بكيدهن عليم). ويستجيب الملك ويحقق، ويوسف لا يزال في السجن، ويعترفن ويقررن (ما علمنا عليه من سوء)، وتقر امرأة العزيز وتشهد له بالبراءة (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين). وعندما وصل الملك إلى هذه النتيجة لم يكتف بإخراجه من السجن وتبرئة ساحته من التهمة ، بل زاد على ذلك أن طلب أن يستخلصه لنفسه (ائتوني به أستخلصه لنفسي). وبذلك صار يوسف من خاصة الملك يتبوأ من الأرض حيث يشاء وصار لدى الملك مكيناً أميناً آمنا مؤتمناً، ومسؤولاً عن مالية الدولة واقتصادها ومستودعات الحبوب وتخزينها وتوزيعها بالعدل...ثم عزيزاً ثم ملكاً على مصر،وهذا يعني أنه تمكن من نشر العقيدة التي يحملها ويدعو إليها، ومن حكم البلاد وتطبيق أحكام دينه دين أبيه وجد أبيه إبراهيم عليه السلام، فقد طبقها، من حين كان عزيزاً، على أخيه (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك )، ولذلك سأل إخوته عن عقوبة السارق في دينهم (.. فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين). ولعل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه في عهد موسى عليه السلام، هو من بقايا من آمن بيوسف من قبل، فقد ورد في قوله( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث من بعده رسولا...).
وهكذا يكون يوسف عليه السلام قد حقق بأسلوب الدعوة الثاني ما لم يحققه بالأسلوب الأول، فلم يخرج بالأول من السجن ولم تبرأ ساحته ولم يؤمن المدعو الذي نجا، في حين أنه بالأسلوب الثاني خرج وبرئ واستخلصه الملك... وطبق أحكام شريعته ورفع أبويه على عرش مصر...
وهكذا تفعل بعض أساليب الدعوة ما لا تفعله الأساليب الأخرى ولو توافرت لها عوامل نجاح وقبول أكثر.

____________________________

الخميس، 23 مارس 2006

ملاحظات على بحث الأستاذ عبيد الله

الأخ العزيز محمد سعيد عبيد الله حفظك الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
تلقيت دراستك الأولى والثانية حول الترتيب الجديد للحروف العربية في الأبجدية التي تعطي فيها قيما عددية للحروف (حساب الجمل)، وربطك لهذا الترتيب الجديد بالإعجاز العددي للقرآن الكريم، وعكفت على دراسته بتأن، وصلت إلى الملاحظات التالية:
1- لم تعرّف مصطلحات الحروف الجامدة والرخوة والمنسوخة، وهذه مصطلحات جديدة جديرة بالتحديد.(وإن كدت أفهم أن الجامدة لا يوجد ما يماثلها وأن الرخوة هناك ما يماثلها بزيادة نقط عليها، أي إعجامها). ومع ذلك أجد أن النون لا تماثلها ب ت ث والقاف لا تماثلها ف ، وهذا في أشكال ورسوم الحروف كما هي عندنا الآن، ولا أدري ما أشكالها قبل أن تعجم وفي رسم المصحف في القرن الهجري الأول.
2- إن إدخالك حرفي الواو والدال في المجموعة الأولى والثانية أخرج المجموعتين من أن تكونا تمثلان الحروف المقطعة (النورانية) في أوائل بعض السور القرآنية.
3- تقول " وجعل حرف الواو وحرف الدال عقدة للمعجزة". إن العقدة إشكال أو عقبة في التدليل على المعجزة أو على أي مفهوم تذكر معه، إلا إذا كنت تريد بهذه الكلمة شيئا آخر.
4- رتبت في رسالتك الثانية الحروف الجامدة والرخوة بشكل مختلف عن ترتيبهما في الرسالة الأولى ( وهو اعتباطي في المرتين)، فلا هو هجائي ولا أبجدي قديم ولا حسب ورودها في أوائل السور في المصحف.
5- إنك اعتمدت في ترتيبك على إحصاء الجذور للكلمات القرآنية في كتاب" المعجم المفهرس" كما أظن، ولكن هذا المعجم لم يكن دقيقا في إحصاء بعض الجذور. وأنت لم تحدد المقصود من الجذور أهي جذور الأفعال والأسماء المعربة فقط، أم تشمل جذور الأسماع المبنية الثلاثي والثنائية والمكونة من حرف واحد؟ وهل تعتد بالحروف كثرت أو قلت حروفها الهجائية؟ وتحديد هذه الأمور أساسي في عملية الإحصاء!
6- ترتيبك هذا دفعني إلى إحصاء الجذور الواردة في كل حرف من الحروف التي رتب عليها المعجم المفهرس( وهو في الغالب يضع فاصلا بين كل جذر وآخر) ووجدت الإحصاءات( الأولية) التالية:
الهمزة لم أحصها لكثرتها س 111 / ن 107/ ع 105 / ح 99/ ر 89/ ق 80/ و78/ م 76/ ص 62/ ك 60 / ل 58 / هـ 51 / د 48 / ط 37 / ي 22 //
ب 86 / ف 73 / ج 72 / خ71 / ش 63 / غ 48 / ز 42 / ض 25 / ت 23 / ث 23 / ذ 23 / ظ 7.
7- هذا الترتيب التنازلي صحيح إذا كانت الفهرسة دقيقة وسليمة، ولكن لا بد من التزام دقيق بمنهج الجذور حسب مفهوم محدد، فإذا اقتصر الإحصاء على جذور الأفعال والأسماء المعربة فقط التزم ذلك في كل الحروف. ولكني وجدت المعجم المفهرس يفهرس أحيانا أسماء إشارة وأحيانا لا يفهرس أخرى، وفهرس حرف ها التنبيه وليت ولعل ولم يفهرس كأن ولكن وبل وبلى وحتى وفهرس الضمير هي (هيه) ولم يفهرس هو، هما، هم، هن. وفهرس هاتين وهذان في حرف الهاء ( ومن حقهما الفهرسة في حفي التاء والذال) ولم يفهرس هذا وهذه، وفهرس هؤلاء في الهمزة (وهذا مكانها الطبيعي). وفرس اللائي واللاتي واللذان في حرف الألف ولم يفهرس الذي والتي ومن حقها أن تفهرس في اللام، وفهرس ألم والر وألمر وألمص وحم وطس وطسم وكهيعص ... وأحصى كأين ولم يحص كم.
8- فإذا أسقطنا من حرف الهاء إحصاء ها وهاتين وهذان وههنا وهيه مثلا قل عدد جذور الهاء عن عدد جذور الدال(46).
وفي حرف التاء هناك زيادة (تلك) وتارة وهي من جذر التوراة فبحذفهما يبقى للتاء 21 جذرا وهذا أقل من عدد جذور الثاء.
وهكذا أجد أن هذه الإحصاءات تحتاج إلى دقة وإعادة نظر.
9- وفي التطبيقات كانت هناك عمليات انتقائية، فأنت لم تقتصر على كلمات من القرآن الكريم فذكرت كلمات (عاصمة وراحة اليد" والأولى الكف" وفتر وشبر وقدم"وحدة قياس " ومدية وخنجر وديوان...) فلم يبق لهذه التطبيقات علاقة بالإعجاز القرآني.
10- وكذلك اخترت كلمات لغوية انتقائياً وكذلك ترتيبها فلم تذكر الضيعة أو الهجرة أو العزبة ولا الساعة، وهناك أعضاء للإنسان كثيرة لم تذكرها أو أجزاء من الأعضاء:مرفق، عضد، كف، كعب، ركبة، فخذ، ساق..وترتيب السكين بعد الخنجر والحسام قبل الساطور غير منطقي.. ولم تذكر المشرط والمقص وكلام كثير يدخل إليك عبره المعترضون.
ومع ذلك فإن صلة كل هذا بالإعجاز القرآني غير متينة، فليس هناك إلا أساس الترتيب الأبجدي عندك فقط يعتمد على ورود جذور كلمات مبدوءة بهذه الحروف في القرآن حسب هذا الترتيب، إن صحت هذه الإحصاءات.
وأخيراً أتمنى لك الخير والتوفيق والوصول إلى أسس ونتائج صحيحة سليمة تقف في وجه الاعتراضات، وهذا كله يحتاج إلى جلد وصبر ودقة إحصاءات.
وفقك الله إلى ما فيه خير للقرآن والإسلام والمسلمين.
صدقي البيك

الأربعاء، 22 مارس 2006

رسالة إلى الكحيل

الأخ العزيز عبد الدايم الكحيل حفظك الله ورعاك
وعليكم السلام ورحمة اله وبركاته وبعد
قرأت رسالتك إلي وسعدت بها وبمضمونها، وذكرني اسمكم الكريم بالشيخ الجليل الأستاذ سعيد الكحيل ، وأنا لا أزال أتخيله بجبته وعمامته البيضاء وابتسامته العذبة وقلبه الطيب، وما أدري أأطلب منك أن تبلغه تحياتي أم أترحم عليه؟ ولا أدري أيضاً أهو والدك أم أحد أقاربك؟ لقد كنت ألتقي معه في مكتبة المرحوم أحمد علوان إذ كنا مع كثيرين من روادها، فأنا من المقيمين في حمص حتى عام 1980 حين غادرت إلى السعودية للعمل مدرسا فيها وأنا الآن أعمل محررا في مجلة المستقبل الإسلامي في الرياض، ولي موقع بسيط فيه بعض ما نشرته من مقالات وسيرتي الذاتية.
Sedqialbaik.blogspot.com
سبق لي أن اطلعت على بعض ما نشرته في موقع الأرقام من أبحاث حول الإعجاز العددي في القرآن الكريم وأعجبني ذلك منك. وحين أعلمتني بأن لك موقعاً سارعت إلى دخوله فأعجبني تعدد جوانب الإعجاز فيه وكثرة كتبك التي نشرتها، وأسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتك يوم القيامة. وأنا أدخل إليه بين حين وحين، وأقرأ فيه.
وقد وجدت في أبحاثك عن الكلمات أنك تفصل واو العطف عما بعدها وتعدها كلمة مستقلة! كما أنك عللت ذلك في مقالتك المنشورة في موقع الأرقام (ضوابط الإعجاز العددي) بقولك "والسبب في ذلك هو أن النظام الرقمي الذي سنراه ونلمسه والقائم على الرقم سبعة لا ينضبط إلا على هذا الأساس) وهذا يعني أن المعطيات والأسس التي انطلقت منها اعتمدت على النتائج، وهذا غير منطقي، فالمنطق يقتضي أن تعتمد النتائج على الأسس والمعطيات. ثم إن الصورة التي ذكرت أنها لمصحف كما كتب في عهد الرسول عليه السلام، لم تظهر. مع العلم أن اللغة العربية لم تكتب فيها كلمة واحدة مستقلة مؤلفة من حرف هجائي واحد.
تحياتي لك ولكل من يعمل معك في الموقع أو في الإحصاءات.


أخوك صدقي البيك - الرياض

السبت، 24 ديسمبر 2005

الانتفاضة الأولى : أسبابها، مراحلها، وسائلها، نتائجها، 1407- 1414هـ 1987- 1994م

تقرير: الانتفاضة الأولى ، أسبابها،مراحلها، وسائلها، نتائجها، مجلة الجندي المسلم، العدد 105، تاريخ 1/11/2001
بقلم
صدقي البيك
فلسطين التي كتب الله عليها أن تكون أرض الملاحم، وأن تكون أرض الرباط إلى يوم القيامة؛ ابتليت في أوائل القرن العشرين بوباءين هما: الاستعمار والصهيونية، يدعم أحدهما الآخر ويعتمد عليه. وتصدى أهل فلسطين لهذين العدوين اللدودين بكل أنواع التصدي، من إضرابات ومظاهرات وثورات، يأخذ بعضها برقاب بعض، لم تثن عزيمتهم في ذلك كله عظمة بريطانيا، ولاخبث الصهيونية ودهائها، وتحمل شعب فلسطين الأذى من الاستعمار، والتمدد السرطاني من الاستيطان اليهودي؛ حتى إذا قامت للصهاينة دولة عام (1948م)، على رغم تدخل الجيوش العربية للحيلولة دون ذلك، وأكملت الصهيونية احتلال فلسطين عام (1967م)، لم يتوان الشعب عن الاستمرار في المقاومة المسلحة، مع كل ما بذلته إسرائيل بجبروت جيشها من قتل واعتقال وتهديم للبيوت وشق للطرقات وتجريف للأرض، وقلع للأشجار؛ حتى إذا أخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان، وتوقع العالم أن يغلب اليأس على النفوس، ويدفعها الإحباط إلى الخنوع والركود والاستسلام، انطلقت الانتفاضة الأولى في 8-12-1987م.


أسباب الانتفاضة


كان انطلاقها لعوامل أساسية عديدة منها:
1 انعدام أي أمل في حل القضية، بعد أن عقدت اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت من ميدان المعركة والحسم العسكري أكبر دولة عربية.
2 اتساع إنشاء المستوطنات الإسرائيلية على أرض الضفة الغربية، وقطاع غزة.
3 إدراك الفلسطينيين أن أطروحات السلام ما هي إلا أضغاث أحلام.
4 توسع الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي.
5 توجه قيادة المنظمة إلى القبول بالقرارات الدولية، وبالحل السلمي مع الاستجابة لكل المطالب التي تتقدم بها أمريكا الدولة الداعمة لإسرائيل، بعد أن أبعدت من لبنان، وفرض عليها الحصار.
6 إحساس الفلسطينيين أن الأشقاء تخلوا عنهم، وتركوهم وحيدين في مواجهة إسرائيل، وفرض سياسة التجويع عليهم، وجعل الاقتصاد الفلسطيني عالة على المجتمع الإسرائيلي.
لهذه الأسباب وغيرها بدأت تجري هنا وهناك أعمال فدائية فردية توقع القتل أو الجرح في أفراد من المجتمع الصهيوني؛ كحادثة طعن اليهودي (شلومو تاكال) من مستوطنة (بيت يام)، في ساحة التاكسيات في غزة (ميدان فلسطين) يوم الأحد 6-12-1987م، وقام الجيش الإسرائيلي باحتجاز حوالي خمسمائة شخص، أطلق سراحهم بعد حين، وتم تطويق المنطقة.

شرارة الانتفاضة الأولى:


كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الأولى إقدام أحد أقارب اليهودي المطعون، وهو سائق سيارة شحن مقطورة، على صدم متعمد لسيارتين من سيارات العمال الفلسطينيين العائدين من عملهم داخل الخط الأخضر (الأرض المحتلة عام 1948م)، وذلك مساء يوم الثلاثاء 8-12-1987م، وهذا أدى إلى قتل أربعة وجرح تسعة آخرين، وقد أشار مؤلفا كتاب "انتفاضة" الإسرائيليان: رئيف شيف وزميله إلى أن هذه الحادثة مدبرة، قالا: "ومما يدل على أن الحادث مدبر، ومخطط له: وجود سيارة ذات نمرة صفراء شبيهة بسيارات المخابرات الإسرائيلية بجوار الحادث، ركبها السائق الإسرائيلي بعد حادث الصدم، وانطلقت به... ولم يحاكم إلا بعد عشرين شهراً!!".
وما إن سمع الشباب بجريمة الشاحنة حتى بدأت مكبرات الصوت في الجامعة الإسلامية بغزة تطالب بالتوجه إلى المستشفى للتبرع بالدم.
وفي صباح يوم الأربعاء بدأت التظاهرات العارمة بعد صلاة الفجر من مسجد مخيم جباليا، واتجهت إلى مقر الحاكم العسكري، ورجمته الجماهير بالحجارة، كما رجموا مركز الشرطة، وتصدى لهم الجنود الصهاينة بالرصاص، والغازات المسيلة للدموع؛ فسقط شهيد جديد وجرح سبعة وعشرون، وأحرقت سيارتا جيب إسرائيليتان، ثم خرجت جنازة الشهيد بهتافات "الله أكبر"، وانتقلت الأخبار إلى سائر مدن ومخيمات القطاع وانطلقت التظاهرات أيضاً في حي الشجاعية ورفح، وبذلك كان هذا اليوم الأربعاء 9-12-1987م بداية للانتفاضة التي تواصلت يوماً بعد يوم ومدينة بعد مدينة؛ حتى شملت القطاع كله، والضفة الغربية، وامتدت شهراً بعد شهر، وسنة بعد أخرى؛ حتى أكملت سبع سنين.
ففي يوم الخميس استمرت التظاهرات في مدن القطاع ومخيماته، وامتدت إلى نابلس في الضفة، وإلى مخيم بلاطة المجاور لها، وإلى مخيم قلنديا..
وجاء يوم الجمعة فعمت التظاهرات بعد الصلاة كل مدن القطاع والضفة والمخيمات، ووزعت منذ الصباح المنشورات والبيانات، وكان أول بيان ينزل إلى الميدان البيان الأول لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في 11-12-1987م وهو الذي أطلق على هذه الحركة الجماهيرية مصطلح "الانتفاضة" "...لقد جاءت انتفاضة شعبنا المرابط في الأرض المحتلة رفضاً لكل الاحتلال... وسياسة انتزاع الأراضي... وسياسة القهر..." "من بيان حماس الأول".

القوى العاملة في الانتفاضة


مع اتساع نطاق الانتفاضة مكاناً وزماناً؛ شارك فيها كل القوى العاملة التي يضمها المجتمع الفلسطيني من فتح، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، والجبهة الديموقراطية، وغيرها، ومن يؤيد هذه الحركات، ومن لايؤيد أحداً منها!! فقد كانت ثورة عارمة شارك فيها كل فلسطيني بيده أو بلسانه... وتمثلت هذه الحركات في تيارين "حركة المقاومة الإسلامية" التي أصدرت بيانها الأول ووزعته في 11-12-1987، و"القيادة الوطنية الموحدة" التي صدر بيانها الأول في 1-4-1988م.
وإذا كانت هذه القوى كلها قد شاركت في أحداث الانتفاضة اللاحقة؛ فإن انطلاقها لم يكن من تخطيط فئة واحدة من هذه القوى، ولم يزعم أحد الأطراف أنه خطط لها قبل انطلاقها، فقد كان انطلاقها عفوياً، وكان أسرع من تجاوب معها وحرك جماهيرها هو التيار الإسلامي المتجذر في مدن فلسطين ومخيماتها وجامعاتها، وشهدت أيام الانتفاضة الأولى ميلاد حركة "حماس" التي ولدت حركة ضخمة واسعة الانتشار، جيدة التنظيم مشبعة بالفكر، مفعمة بالحماسة.

هل فوجئت إسرائيل بالانتفاضة؟


كانت الانتفاضة بهذا الاتساع المكاني، والامتداد الزماني والشمول، والتنوع في الأساليب من الحجر والشعار على الجدران إلى التظاهر الصاخب العنيف، والقنابل الحارقة، والكمائن، والرصاص، والعمليات الاستشهادية مفاجأة مذهلة لإسرائيل وقادتها السياسيين والعسكريين الذين ظنوا أن سنوات القهر، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان قد حطم روح الجهاد في الشعب الفلسطيني. يقول زئيف شيف في كتابه (انتفاضة): "إن الفلسطينيين فاجؤوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدها.. عنف مدني شعبي ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك... فلم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها بغتة في الخارج ولسكانها على حد سواء!! وكانت المفاجأة في شمول الانتفاضة لجميع فئات السكان شباباً وشيباً، نساء وأولاداً ورجالاً قرويين، ومدنيين، متدينين، وعلمانيين... وهذه المفاجأة كانت أعنف من مفاجأتها بحرب يوم الغفران، فإسرائيل لم تستطع ملاحظة ما يجري داخل بيتها، وفي غرفة نومها".
واستمرت الانتفاضة، وخيبت كل ظنون الخبراء الإسرائيليين والمحللين العرب وبعض القياديين الفلسطينيين بأنها قد تستمر ثلاثة أشهر ثم تتوقف ثم تعود بعد سنة أو سنتين للاندلاع من جديد!! خيبت ظنونهم، وكشفت خطأ تحليلاتهم وتوقعاتهم فاستمرت شهوراً وسنة وسنوات؛ حتى بلغت سبع سنين، تخف هنا لتشتد هناك، وتهدأ في مدينة لتلتهب في أخرى؛ حتى جن جنون قيادة إسرائيل، وتمنت لو أن البحر يبتلع غزة بمن فيها ليستريح إسحاق رابين من مصيبته فيها، ودفعته إلى أن يأمر جنوده بتكسير عظام أيدي رماة الحجارة، وكان للمشهد الذي التقطته أجهزة التصوير التلفزيوني الغربية لجنود صهاينة يكسرون أيدي بعض الشباب بالحجارة الكبيرة دوي هائل في سمع الرأي العام العالمي.

مراحل الانتفاضة:


مرت الانتفاضة عبر مسيرتها بعدة مراحل هي:

المرحلة الأولى:


"مرحلة المواجهة الجماهيرية الشاملة" حيث الإضرابات العامة، والتظاهرات العارمة، ورجم الجنود ومراكز الأمن بالحجارة والزجاجات الحارقة، وزرع المسامير في طريق سيارات الصهاينة، وخرق منع التجول، والعصيان المدني. وفي هذه المرحلة عبئت الجماهير فكرياً ونفسياً وعاطفياً للقيام بهذا المجهود، وألحقت الانتفاضة في هذه المرحلة خسائر اقتصادية بالمحتل الإسرائيلي.

المرحلة الثانية:


مرحلة "المواجهة مع تنامي التكتيكات الموازية": لجأت الانتفاضة إلى مقاطعة الإدارة المدنية الإسرائيلية، واستقالة الموظفين الفلسطينيين من دوائر الاحتلال، وملء الفراغ المؤسساتي هذا بإدارة شؤون الشعب الفلسطيني المدنية بعيداً عن وجود الإدارة الإسرائيلية، مع استمرار التظاهرات والاشتباكات.

المرحلة الثالثة:


اتسمت هذه المرحلة بتراجع النشاطات الجماهيرية، وتنامي العمليات المسلحة التي يقوم بها أفراد متميزون في التنظيمات الفلسطينية، وقد بدأ هذا النوع من المواجهة بالتصاعد المنظم من أوائل عام (1992م)، وذلك بسبب توجه قيادة المنظمة إلى الانغماس في مؤتمر مدريد للسلام.

عمليات متميزة


شهدت هذه المرحلة عمليات متطورة نوعياً هزت الكيان الإسرائيلي هزاً عنيفاً، وشغلت النظام الدولي؛ حتى إنها أدت إلى إيقاف المفاوضات الثنائية التي نجمت عن مؤتمر مدريد. وكان أبرز هذه العمليات: ما قامت به حماس من اختطاف الجندي الإسرائيلي (آفي ساسبورقس) في شباط (1989م) من العمق الإسرائيلي، ثم اختطاف الجندي (إيلان سعدون) في أيار (1989م)، واختطاف الجندي (نسيم توليدانو) في كانون الأول (1992م)، وكان لهذا الحدث الأخير وغيره وقع أليم على السلطات الإسرائيلية، فقد عاشت الضفة والقطاع أجواء حرب حقيقية في أعقاب سلسلة العمليات التي نفذتها حماس بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الانتفاضة؛ فاتخذت إسرائيل قراراً بإبعاد جماعي للمسؤولين في حركة حماس في الضفة والقطاع وبعض قادة حركة الجهاد الإسلامي، فأبعدت في يوم 17-12-1992م (415) معتقلاً، مقيدي الأيدي، ومغمضي العيون، وألقت بهم عبر الحدود إلى لبنان في مكان نال شهرة بعد ذلك هو: مرج الزهور؛ حيث أصر المبعدون على البقاء فيه، ودخلت قضية إبعادهم المحافل الدولية، وناقشها مجلس الأمن الدولي، واستعملت أمريكا كعادتها، حق الفيتو بعد أن أعلنت إسرائيل موافقتها على إعادتهم بعد سنة، كما توقفت المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين خمسة أشهر.
ولكن هل أثرّ هذا الإبعاد على الأحداث في فلسطين؟
نعم؛ ولكن بغير ماكانت تريد إسرائيل؛ فقد أدى ذلك إلى تصاعد العمليات لا إنهائها ففتحت تصفية ضابط الشاباك الإسرائيلي في بيت لحم (حاييم نحمافي)، وقتل جنديان قرب الخضيرة عندما حاول المجاهدون أسرهما، وقصفت سيارة جيب إسرائيلية قرب مستوطنة جافي طال فقتل جنديان وهرب ثالث، ودهس ضابطا صف قرب نابلس فقتلا...
وتمت باكورة العمليات الاستشهادية عندما فجر المجاهد (ساهر حمد الله التمام) سيارته بين حافلتين عسكريتين تقلان جنوداً صهاينة أمام مقهى (فليج إن) في مستوطنة ميحولا في غور الأردن... وهذا قليل من كثير من الأعمال البطولية التي أقضت مضجع إسرائيل، ودفعت قادتها إلى التفكير في الإنسحاب من غزة ولو من طرف واحد!! إذا لم يتم الاتفاق مع المنظمة على خطوات حل.
وقد تحمل الشعب الفلسطيني من المعاناة، والأذى، والقتل، والاعتقال، والتعذيب ما تنوء به دول، ومع ذلك لم يفت ذلك في عزم الجماهير، فصبروا على المكاره؛ متمثلين قول الله تعالى إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون(104) {النساء: 104} فاستمروا بالانتفاضة والصمود، وتقديم الشهداء، والجرحى، والمعتقلين.

أساليب الانتفاضة ووسائلها:


استعمل رجال الانتفاضة أساليب مختلفة، ووسائل شتى في انتفاضتهم، منها: الشعارات على الجدران أو في اللافتات، والتظاهرات، وتشييع الجنائز، والمنشورات، والإضراب، والاستقالات من العمل لدى الإسرائيليين، والكمائن، وقتل الجواسيس المتعاونين مع العدو الصهيوني، واختطاف الجنود، والعمليات الاستشهادية.
وقد حارت أجهزة الأمن الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة، وأسقط في أيدي قادتها، فجيشهم مدرب على مقابلة الجيوش الجرارة، والعمل في ساحات القتال، ومجهز بالطائرات والدبابات والصواريخ؛ لمواجهة مثيلها، فهل يستعملها في مواجهة رماة الحجارة أو المتظاهرين أو المضربين أو الاستشهاديين؟!
ومع ذلك فقد تفننوا في استعمال وسائل القمع، ووسائل الرد على وسائل الانتفاضة؛ فطمسوا الشعارات وكتبوا أخرى، وتصدوا بالرصاص المطاطي والحي، واقتحموا المنازل، وحظروا التجول، وألقوا قنابل الغاز المسيل للدموع، وضربوا بالهراوات ورجموا براجمات الحجارة!! وكسروا العظام، واستعملوا دروعاً بشرية من الفلسطينيين لمواجهة التظاهرات ورماة الحجارة، وخلعوا أبواب المحلات التجارية، أو أغلقوا بعضها بلحام الأوكسجين، وهدموا المنازل، وقلعوا الأشجار...
ومع كل هذه الأساليب الجهنمية، والوسائل القاسية التي استعملتها إسرائيل في مواجهة الانتفاضة لم تلن قناة الشعب الفلسطيني، وصمد بالصدور العارية، والزنود القوية، والقلوب الجريئة في مقارعة الدولة التي تتحدى دولاً!!

توقف الانتفاضة:


في سنوات الانتفاضة، وفي الوقت الذي كان الشعب فيه يجاهد ويراق دمه؛ جرت مفاوضات علنية في مؤتمر مدريد 30-10-1991م، ثم مفاوضات ثنائية في نيويورك امتدت من شهر 11-1991م، إلى شهر 10-94م، وأخرى سرية بين بعض قادة منظمة التحرير الفلسطينية وبين شمعون بيريز في أوسلو عاصمة النرويج، واستيقظ الناس في 30-آب-1993م على إعلان اتفاق أوسلو، ووقع عليه في واشنطن برعاية الرئيس كلينتون في 13-9-1993م على أنه اتفاق إعلان مبادئ، يخلص إسرائيل من ورطتها في مواجهة الانتفاضة، ويقدم للطرف الفلسطيني نتفاً من الأرض الفلسطينية، كما تم توقيع اتفاق "الحكم الذاتي في غزة وأريحا أولاً" في القاهرة في 4-5-1994م، وسمح للسلطة الفلسطينية بالدخول إلى أريحا وقطاع غزة، في الشهر نفسه، ثم دخل رئيس المنظمة الرئيس ياسر عرفات إلى غزة في تموز (1994م).
وبذلك توقفت الانتفاضة الأولى؛ لأن أي تحرك بعد الآن يقوم به المجاهدون سيقف في وجهه أجهزة الأمن الفلسطينية التي كانت مهمتها الأساسية حفظ الأمن (الإسرائيلي)، كما توهم بعض أجنحة الانتفاضة أن البلاد تحررت من إسرائيل، وأنها ستكمل انسحابها من الضفة وغزة، وتخلي المستوطنات، ويعود النازحون واللاجئون!!

نتائج الانتفاضة:


كانت أهداف الانتفاضة متعددة، وأهمها: حمل قوات الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من المناطق المحتلة عام (1967م)، إضافة إلى ماكانت تشير إليه بيانات حماس من أن أرض فلسطين تمتد من البحر إلى النهر، وهناك أهداف مرحلية منها: إطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء الاستيطان، والسيادة الفلسطينية... وقد وصلت الانتفاضة إلى حد إعلان كبار المسؤولين الإسرائيليين عن رغبتهم في الانسحاب من غزة من طرف واحد (من غير اتفاق مع المنظمة) للتخلص من المعاناة التي كانت قوات الجيش الإسرائيلي تقاسيها، وللخروج من المخاضة التي غاصت فيها أقدامهم، فهل حقق اتفاق أوسلو شيئاً من أهداف الانتفاضة المرحلية؟
كان أمر دخول السلطة إلى غزة وأريحا، ثم إلى سائر المدن الفلسطينية وبعض القرى، مظهراً موهماً بالانسحاب الإسرائيلي ودخول السيادة الفلسطينية؛ ولكن الذي ظهر حقيقة حتى بعد سبع سنوات من توقف الانتفاضة ودخول رجال أمن السلطة، أن هذه السيادة الفلسطينية منقوصة؛ بل هي معدومة في منطقة (ب) التي تديرها مدنياً، ولا وجود لها في منطقة (ج) ولا إدارة مدنية أيضاً، وكذلك لاوجود لهذه السلطة عبر الحدود مع مصر والأردن، ولا وجود لها خارج حدود المدن والقرى في منطقة (أ) حيث ترابط الحواجز الإسرائيلية وآليات الجيش الصهيوني عند أطرافها، فكل ما كانت ولا زالت حتى الآن تسيطر عليه أجهزة الأمن الفلسطينية لايزيد عن (12%) من مساحة الضفة والقطاع.
ولكن الانتفاضة كانت قد أنجزت عدة مهام، منها: أنها كشفت زيف الديموقراطية الإسرائيلية، وأظهرت عنصريتها، وأكسبت الفلسطينيين تعاطف الرأي العام العالمي معهم، ووحدت القوى الفلسطينية، وتعززت مكانة المنظمة في الأوساط الدولية حتى اعترفت بها أمريكا وإسرائيل، وعرت الانتفاضة أسطورة جيش إسرائيل الذي لايقهر، وأنتجت جيلاً من الشباب يتمتع بروح التضحية، ولا يهاب مواجهة الجنود المدججين بالسلاح بالصدور العارية، والقلوب العامرة بالإيمان والجرأة، وظهرت آثار هذه النتيجة في قوافل الشهداء والاستشهاديين في انتفاضة الأقصى الحالية.
والحقيقة: أن الانتفاضة الأولى جعلت العالم العربي والإسلامي، والأوساط الدولية، والإعلام العالمي يعيش سبع سنوات من الاستيقاظ صباحاً والنوم مساء على أخبار الانتفاضة البطولية، والصمود الذي يعلّم الآخرين كيف تكون المرابطة، وكيف يكون الصبر على الأذى، وأن المعارك يجب أن تستمر شهوراً وسنوات حتى يتنزل النصر، ولا يجوز أن تنتهي في أيام أو ساعات!!
كما أثبتت الانتفاضة أن الفلسطينيين لايهضمون الوجود الصهيوني الدخيل في بلادهم، وأن التعايش السلمي بين العرب والصهاينة شعار خادع وغير قابل للتطبيق، وأن الزمن لم يسحق روح الجهاد عند الأجيال الحديثة.
ومع ذلك فإن كل هذه النتائج قد دفع الفلسطينيون لها ثمناً غالياً من دمائهم، وشبابهم، وبيوتهم، وأرضهم، وأشجارهم؛ فقد قدموا من 8-12-1987م إلى حزيران (1994م) (1392 شهيداً منهم 353 طفلاً، و130787 جريحاً، و 18211 معتقلاً، و 2400 بيت مهدم، و 185 ألف شجرة مقطوعة...) وكان من الشهداء: أبو جهاد خليل الوزير الذي اغتالته وحدة كوماندوس إسرائيلية في تونس.
لقد أحدثت الانتفاضة الأولى تغييراً جوهرياً في نفسية الشباب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وفي الأرض المحتلة عام (1948م)، وفي مخيمات اللاجئين وتجمعاتهم في البلاد العربية، وفي أرض الشتات في أرجاء العالم، وهو أن التفاوض مع العدو، والحل السلمي لا يقدمان للقضية وللشعب الفلسطيني أي نفع، وأن السبيل الوحيد للوصول إلى تحقيق الأهداف قريبها وبعيدها هو المواجهة مع العدو بالقوة.
ولعل هذا التغير الجوهري هو الذي عجل في انطلاق انتفاضة الأقصى الحالية؛ إضافة إلى اليأس والإحباط الذي أصاب السلطة الفلسطينية، ومن كان يرى في التفاوض وسيلة للحصول على الحقوق؛ إذ لم تحصل السلطة على شيء ذي بال عن طريق التفاوض الذي استمر عشر سنوات مع عدو خبيث ناقض للعهود، لا يتنازل إلا عما كان يشكل له مستنقعاً، أو حقلاً مليئاً بالألغام.

السموأل بين الحقيقة و الأسطورة

مقال السموأل بين الحقيقة و الأسطورة ، مجلة الأمة العدد 29، جمادى الأولى 1402 هـ بقلم صدقي البيك

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2005

الإسلام في شعر أبي تمام




الإسلام في شعر أبي تمام
بقلم: صدقي البيك



ومن يجهل أبا تمام وهو صاحب ملحمة فتح عمورية وشاعر المعتصم الذي خلده وخلد استجابته للصرخة المدوية في تاريخ الإسلام (وامعتصاه)؟!


إنه حبيب بن أوس الطائي، خرج من إحدى قرى حوران في جنوب سورية، وأصبح شاعر المعتصم ومن حوله من القواد والولاة. وإنه لأمر طبيعي أن تبرز الروح الإسلامية ومفاهيم الإسلام في ثنايا شعره، فهو الشاعر الرزين الذي يرافق الخليفة في حله وترحاله وفي غزواته، ويلتقي قواده وولاته، وهم رجالات الدولة الإسلامية التي تواجه الروم البيزنطيين على الحدود وفي الثغور، كما تتصدى للخارجين على الدين والأمن في داخل البلاد، متدثرين بثياب المروق من الدين وبدعوى العنصرية والشعوبية، ولذلك كثرت الأبيات التي تتردد في قصائده حول مفاهيم الإسلام وقيمه وأخلاقه التي يتحلى بها ممدوحه أو من يرثيهم من رجالات الدولة.


فتح عمورية


وإذا بدأنا بقصيدته (فتح عمورية) وجدناها تزخر بهذه المفاهيم، فالأبيات التي تفتتح بها القصيدة تمثل مفهوماً إسلامياً واضحاً وهو محاربة الشعوذة وادعاء علم الغيب «كذب المنجمون ولو صدقوا» فلو كانت هذه الأجرام السماوية تدل على المستقبل لكشفت ما بمعالم الكفر:
لو بينت قط أمراً قبل موقعه
لم تخف ماحل بالأوثان والصلب


ولكن النصر الذي وفضح زيف المنجمين وكذبهم، كان فتحاً مبيناً وعملاً صالحاً يتقبله رب السماء
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب


وعندما يخاطب المعتصم يبين له أن مافعله كان رفعاً لنصيب الإسلام وقعراً لعمود الشرك، فالمعركة بين الإسلام والشرك، وأحدهما في صعود والآخر في انحدار:
أبقيت جد بني الإسلام في صعد
والمشركين ودار الشرك في صبب


ويتمنى لو أن الكفر كان يعلم أن عاقبة أمره مرهونة بسيوف المسلمين من زمن سحيق، وأن ذلك التدمير والإيقاع بالعدو هو من تدبير رجل يعتصم بحبل الله وكل عمله لله:
لو يعلم الكفر كم من أعصر كنت
له العواقب بين السمر والقضب
تدبيـر معتصم بالله، منتقـم
لله، مرتقـب في الله مرتغـب


ويختم قصيدته بالدعاء للخليفة بأن يجزيه الله خير الجزاء على ما قدمه من الخير والنصر للإسلام، فإن هناك رابطة قوية تشد هذه المعركة إلى أختها في بدر.
خليفة الله جازى الله سعيك عن
جرثومة الدين والإسلام والحسب
فبين أيامك اللاتي نصرت بها
وبين أيـام بدر أقرب النسـب


الخرمي المارق


وهل تقتصر هذه المعاني والعواطف الإسلامية على هذه القصيدة؟ إن هناك عشرات الأبيات التي تأتي متناثرة في ثنايا القصائد تعبر عن هذه المفاهيم التي تنم عن إيمان صادق لدى الشاعر.


ففي مدائحه الأخرى للمعتصم ومعاركه مع المارقين من الدين والخارجين على السلطان يبرز طبيعة المعركة بين الفريقين، فإذا لم يقنع المارقون بحجج القرآن الكريم، ولم يقبلوا بأركان الإسلام فليس لهم إلا أن يقنعهم السيف بحججه الدامغة:
لما أبوا حجج القرآن واضحة
كانت سيوفك في هاماتهم حججا


وهذا بابك الخرمي الذي فاقت مفاسده مفاسد الدجال، انتهت أموره إلى أسوأ ما تنتهي إليه من الهزائم والهروب، واستبشر الدين وافتر ثغره عن بسمة فيها كل الشكر للخليفة وقائده على ما ألحقاه ببابك الخرمي، ولا غرو في هذا النصر فقد شاركت فيه الملائكة جنود المسلمين:
آلت أمور الشـرك شـر مـآل
وأقر بعـد تخبـط وصيــال
لو عـاين الدجـال بعض فعـاله
لا نهلّ دمـع الأعور الدجـال


وفي قصيدة أخرى يفصح عن سرور الدين وشكر المسلمين للخليفة على ما فعله:
لمـا رأى علميـك ولـى هاربـاً
ولكفره طرف عليـه سـخين
فسـيشـكر الإسـلام ما أوليتـه
والله عنـه بالوفـاء ضميـن


في مدائح آخرى


وإذا مدح الواثقَ أبرز فيه نور النبوة الموروث، وقد جعل الله الخلافة في هذا البيت الذي يمتد بجذوره إلى الرسول عليه السلام:
جعـل الخـلافة فيـه ربٌّ قولـه
سبحانه للشيء «كن فيـكون»
قد أصبح الإسـلام في سـلطانها
والهند بعض ثغـورها والصين


وهو من بني العباس الذين ينتسبون إلى عم الرسول وجده وفيهم استقرت الإمامة فالواثق من:
قوم غدا الميراث مضـروباً لهم
سور عليه من القران حصين
فيهـم سكينـة ربهـم وكتابـه
وإمامتاه واسمـه المحـزون


وكل فخر بني العباس والهاشميين أنهم رهط الرسول عليه السلام وإليه ينتسبون، فالممدوح:
مهـذب قُدت النبـوة والإســ
لام قدَّ الشـراك من نسبـهْ
رهط الرسول الذي تقطع أسـ
باب البرايا غداً سوى سببه


والأخلاق التي يتحلى بها ممدوحوه هي أخلاق الإسلام، وهم يؤدون العبادات الإسلامية، فمحمد بن حميد الطوسي له:
ونفس تعاف العار حتى كأنمـا
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر


وآخر يذهب إلى مكة ملبياً، ومحرماً ورامياً للجمرات، وسافكاً لدعاء البدن، ومقبلاً الركن.
والحج والغزو مقرونان في قرن
فاذهب فأنت زعاف الخيل والإبل
لما تركت بيوت الكفر خاويـة
بالغـزو آثرت بيت الله بالقفـل


فهو جزار للخيول في المعارك وللإبل في موسم الحج، وقد توجه إلى بيت الله بعد أن ترك بيوت الكفر خاوية على عروشها، وفارغة من أهلها:


مفاهيم إسلامية


والمفاهيم الإسلامية المتعلقة بإرادة الله وقدرته ونصره للمؤمنين، تتوزع في قصائده بحيث لا تحصى، فالله هو الذي يرمي أبراج الأعداء فيهدمها «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» فهو يقتبس هذه الآية في قوله:
رمى بك الله برجيها فهدمها
ولو رمى بك غير الله لم تصب
وإذا أراد الله نشـر فضيلة
طويت أتاح لها لسـان حسـود
كان الذي خفت أن يكـونا
«إنـا إلــى الله راجعـونـا»
كأنها جنة الفردوس معروضة
وليس لي عمـل زاك فأدخلها


وما أكثر ما يأخذ صوره من القرآن الكريم أو يضمن بعض آياته في شعره كما سبق وكقوله:
فالله قد ضـرب الأقـل لنـوره
مثلاً من المشـكاة والنبــراس
وبيـّن الله هــذا من بريّتـه
في قوله «خلق الإنسان من عجل»
فاعذلوا كيف شئتــم وقولوا
قد «كفـى الله المؤمنين القتـالا»


وما أكثر فخره بأيام الإسلام وبنصر الإسلام، فأيام انتصارات الخلفاء العباسيين تذكره ببدر وأحد
يوم بـه أخذ الإسـلام زينتـه
بأسرها واكتسى فخـراً به الأبـدُ
يوم يجيء إذا قام الحساب ولم
يذممه بدر ولم يُفضـح بـه أحد
ولولا أبو الليث الهمام لأخلقت
من الدين أسباب الهـوى وأرثّت
أقر عمود الدين في مستقره
وقد نهلـت منـه الليالي وعلـّت
يافارس الإسلام أنت حميته
وكفيتـه كلـب العـدو المعتـدي
ضحكت له أكباد مكة ضحكها
في يـوم بدر والعتــاة الشُّـهد


صفات إسلامية


وكل المعاني والأعمال التي يسبغها على ممدوحيه هي صفات إسلامية، ففي مدحه للمأمون يبرز إشراق وجه حكم الله، وصحة إيمان المأمون في قيادته للجيش، فكل ذلك يحول دون فوز الشرك..
مازال حكم الله يشرق وجهه
في الأرض مذ نيطت به الأحكام
لما رأيت الدين يخفق قلبـه
والكفر فيـه تغطرس وعـرام
ماكان للإشراك فوزة مشهد
والله فيـه وأنت والإسـلام
كتبت له ولأوليـه وراثـة
في اللـوح حتى جفت الأقلام


كما يقول في مدحه لمحمد بن الهيثم بن شبابة
يوم وسمت به الزمان ووقعة
بردت على الإسلام وهي سموم
أوليت فيه الدين يمن نقيبـة
تركت إمام الكفر وهو أميم (مضروب على رأسه)


وعندما يتناول أبو تمام ارتداد الأفشين (واسمه خيذر) وكفره بعدما كان أحد قواد المعتصم تحفل قصيدته التي زادت على ستين بيتاً بكل معاني النفاق والكفر التي تحلى بها هذا الأفشين، فيقول:
حتى إذا ما الله شـق ضميـره
عن مستكن الكفـر والإصـرار
ونحا لهذا الدين شفرته، انثنـى
والحق منـه قانىء الأظفــار
مازال سر الكفر بين ضلوعـه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
صلى لها حيـا، وكان وقودها
ميتاً، ويدخلهـا مع الفجــار
وكذاك أهل النار في الدنيا هم
يوم القيامـة جل أهــل النار


ونختم حديثنا عن إسلاميات أبي تمام في شعره بما ختم به هو حياته من الزهد والإقبال على العبادة والتقوى والتخلي عن متاع الدنيا، مع أنه كان في كهولته، فينظم قصيدة يائية من عشرين بيتاً يتحدث فيها عن شيبه وتناقص أيامه ورضاه بما قسم له الله وأنسه بالموت، ويختمها بأبيات يتحدث فيها عن خوفه من الله ورجائه فيه وتقواه ومخالفته هواه فيقول:

فياليتني من بعد موتي ومبعثي
أكون رفاتـاً لا علي ولا ليـا
أخاف إلهي ثم أرجـو نوالـه
ولكن خوفي قـاهر لرجائيـا
ولولا رجائي واتكالي على الذي
توحد لي بالصنع كهلاً وناشياً
لما ساغ لي عذب من الماء بارد
ولا طاب لي عيش ولا زلت باكياً
على إثر ما قد كان مني صبابة
ليالــي فيهـا كنت لله عاصياً
فإني جدير أن أخـاف وأتقـي
وإن كنت لم أشرك بذي العرش ثانياً


فلو لم تكن له إلا هذه الأبيات لكفته، فهو فيها كما ترى مؤمن بالله لم يشرك به شيئاً، ولكنه يخشى صغائر ذنوبه وصباباته ومعاصيه التي تجعله جديراً بأن يخاف العقوبة عليها، ويتمنى أن يكون من أهل الأعراف ما عليه سىئات ولا له حسنات لينجو بذلك من عذاب الله، وهو يرجو العفو من الله وأن ينال رضاه.


رحم الله أبا تمام، ونسأل الله أن يحقق له رجاءه وأن يسجل هذه الأبيات التي تزخر بالصدق والإيمان والحب للإسلام والمسلمين في سجل حسناته.